لقد فكرت في أن ظرفا كالذي يعيشه العراق اليوم يستدعي مني اختيار موضوع آخر غير الرواية للكتابة عنه، فسيبدو وضعي شاذا إذا ما تمسكت بالحديث عن السرد مهما تضمن ذلك الحديث من إشارات إلى عيوب ثقافية واجتماعية وسياسية ربما هي السبب المباشر لما يواجه مجتمعنا من تراجع ومن تهاو مخيف.. إن ذلك في النهاية لن يبدو سوى بطر فكري! ولذا بحثت في كتبي عن نوعية أخرى من الكتب. وقد فوجئت بأنني انتبه للمرة الأولى لكتاب "الخوف من البرابرة" للناقد الفرنسي المعروف تودوروف، مع أنه عندي منذ مدة!
إنه كتاب مناسب جدا لهذه المرحلة، يجد فيه القارئ الكثير من التبريرات لما يجري. فهناك مشكلة الخوف من الآخر على الذات والقيم والهوية. وهناك العنف والقسوة الشديدة في معاملة الآخر انطلاقا من ذلك الخوف. وهناك الانتماء إلى مبدأ الضحية، وهو انتماء يبرر ما تقوم به ضحايا الأمس من عنف شديد تجاه الآخر والمختلف الثقافي والديني والمذهبي. وهناك الأضرار المترتبة على كل ذلك.
يرى تودورف أن الحضارة الغربية كانت تتحرك بمبدأ الخوف من الآخر المختلف الذي خلعت عليه تسمية البربري أو البرابرة بصيغة الجمع، فهؤلاء هم الذين لا يشبهون الغرب. فهم لا يؤمنون بالديمقراطية وإنما بالحكم الفردي. وليست لديهم قيم إنسانية يحترمونها لأنها إنسانية وليست لأنها مواثيق تضطرهم الحاجة إليها كالكرم بالنسبة للبدوي الذي يحتاج في مسيره إلى محطات للتوقف والراحة. وهؤلاء يتصرفون بطريقة عنيفة ووحشية ويبررون أفعالهم بطريقة تخصهم، تماما كما يفعل المتطرف اليوم، فهو يهدد حياة المدنيين ويقتل الأبرياء ويتخطى كل حقوق الإنسان. أي أنه يعمل بقواعده هو وقوانينه هو ولا يهمه بعد ذلك أن يكون عمله متفقا مع القواعد العامة والاتفاقات الدولية التي تنظم العالم الحديث.
وبما أن الخوف إحساس فإنه غير عقلاني ولا يمكن التحكم به أو توجيهه أو الانتباه إلى ما يجلبه من ضرر للجماعة أو المجتمع الذي يشعر به، ولكنه بالنسبة للسياسي يتحول إلى وسيلة لتحقيق غايات أبعد من خلال استغلال ذلك الخوف في تعزيز سلطة أو نفوذ وفي التضييق على أقلية من أقليات المجتمع.
وسنكون كما يرى تودوروف أمام مشكلة متعددة الأبعاد والآثار والنتاج، فعلى مستوى الجماعة والمجتمع والهوية سيكون للخوف من البرابرة تأثير سلبي، فهو يضر الذات ويؤذيها ويجرها إلى مزيد من التعصب والحقد والرغبة في إفناء الذات من أجل إفناء الآخر.
وعلى مستوى الأحزاب أو الشخصيات أو المؤسسات التي تسعى إلى تحقيق مكاسب انتخابية أو سياسية أو مادية سيكون للخوف من البرابرة دور كبير في تحقيق تلك المكاسب.
وفي الحالتين تتحول الجماعة أو الأغلبية (في حالة الغرب غير المسلم) إلى برابرة أكثر بربرية من البرابرة أنفسهم. فمن دون الوعي والمراقبة الواعية للمشاعر وللسلوكيات التي تترتب عليها، نكون قد وقعنا تحت تأثير الرغبة في إيذاء الآخر وإلحاق أكبر الضرر به، تلك الرغبة التي هي جزء من الطبيعة البشرية. وبحسب تودوروف فجميعنا لدينا استعداد لأن نكون برابرة.
وبغض النظر عن التفاصيل الكثيرة التي ترد في كتاب الخوف من البرابرة لتودوروف التي تتعلق بتاريخ الغرب الاستعماري المشين الذي يتنافى مع عقلانيته وقيمه المعلنة من احترام حرية الإنسان وكرامته وصولا إلى حقوقه التي تمنع عنه الأذى والتعذيب. وتتعلق بما تعانيه الأقلية المسلمة في المجتمعات الغربية الحديثة من قسوة وتهديد بالقتل والطرد.. بغض النظر عن كل ذلك فالحل العقلاني الذي يجب أن نعتمده في تخفيف أثر مأزق الخوف من البرابرة هو توسيع دائرة التعددية القافية وإتباع سلوك التسامح مع الآخر.
وبخصوص التعددية الثقافية فينبغي أن يتم الإيمان بحق الآخر بأن تكون له هويته التي تقوم على خصائص ثقافية أساسية تتصل بها. وهي خصائص لا ينبغي أن تربط بأي شكل من الأشكال بسلوك فرد أو مجموعة من مجموعات تلك الثقافة. فما تقوم به القاعدة أو غيرها من الحركات المتطرفة لا يبرر بالإسلام بالنسبة للغرب، ولا يجب أن يبرر بالسنية بالنسبة لنا. مثلما لا يجب أن يكون تعاطف مجموعة أكبر مع تلك السلوكيات الإرهابية الخاطئة، بلا شك، سببا في الحقد على المجموعة كلها وعلى توجيه اللوم لدينها أو معتقدها أو مذهبها، فذلك من شأنه أن يولد نوعا من العزل للجماعة داخل المجتمع ينشأ عنه نوع من الإحساس بالظلم يزيد من احتمالات ارتفاع معدلات العنف.
النقطة الأخرى التي يؤكد عليها تودوروف للتقليل من أثر مأزق الخوف من الآخر المختلف هي التسامح أو التوقف عن التمسك بمبدأ العقاب لأنه يولد الحقد عند من يظن أنه ضحية الإرهاب ويحوله إلى قاتل أشد ضراوة من الإرهابي ويجعله لا يقف عند حدود في إيذاء الآخر، وذلك يزيد من وتيرة الأعمال الإرهابية ويوفر لها تبريرات أكثر ويوجد لها تعاطفا أكبر ومؤيدين أكثر. وهكذا نكون في دائرة عنف تتسع لتلحق الضرر بالجميع.
وبخلاف ذلك لو اعتمدنا مبدأ التسامح القائم على أساس التمييز بين القائمين بالإرهاب وبين الثقافة أو الجماعة أو الدين أو المذهب الذي ينتمون إليه مهما استغلوه وهماً منهم في تبرير أعمالهم، فإننا في النتيجة كضحايا للعنف أو كأهداف له سنجد أنفسنا وقد تحلينا بسمة الاعتراف بالآخر وتقبلنا اختلافه واعتبرناه مصدر غنى ومنحناه حقوقه، على قدم المساواة معنا، في العيش والتعبير والعبادة والتفكير وغير ذلك.
وذلك سيسقط أكثر مبررات العنف ويعزل من يقومون به ويظهرهم على ما هم عليه في الحقيقة بوصفهم ذوات مأزومة أو مريضة نفسيا أو محرومة من حقوق أساسية في الاعتراف أو التعليم أو الحصول على فرص عمل أو غيرها من المشكلات التي يعانيها الفرد عادة في المجتمع. وعلى الدولة ان تجد الحلول لتلك المشكلات.
بالنسبة لي كان الكتاب مقنعا على أكثر من وجه، ذلك لأنه ناقش قضية تشغلنا اليوم عالميا ومحليا فلا يمكن أن تكون الأعمال الإرهابية مهما بلغ ضررها سببا للإساءة لجماعة أو لدين أو لمذهب وتشريدهم وقتالهم وتوجيه الأذى النفسي أو الفكري أو اللفظي لهم.
وهو أي كتاب الخوف من البرابرة مقنع لي شخصيا، لأنه زاد ثقتي بأننا اليوم بحاجة إلى العقل أكثر من حاجتنا لأي شيء آخر.
مقالات اخرى للكاتب