في اطلالته الاعلامية الاخيرة، خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع وزير الخارجية البريطاني وليم هيغ، قال رئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني "ان المادة 140 من الدستور العراقي قد انجزت وانتهت بعد دخول قوات البيشمركه الى المناطق المتنازع عليها عقب انسحاب قطعات الجيش منها، ولن نتحدث عنها بعد الان، ولقد صبرنا عشر سنوات مع الحكومة الإتحادية لحل قضية المناطق المتنازع عليها وفق المادة 140 لكنها كانت دون جدوى، وان دخول قوات البيشمركه إلى تلك المناطق جاء لحمايتها ومنع سقوطها بأيدي الإرهابيين بعد إنسحاب القوات الحكومية منها".
وبعد تصريحات البارزاني بات الموقف والتوجه الكردي واضحا بما فيه الكفاية، ولم تعد هناك حاجة للحديث عما يريده الاكراد وما ينوون فعله الان وفي مراحل لاحقة.
ربما لم يكن الموقف الكردي الحقيقي قد تبلور من خلال تصريحات لمسؤولين اكراد من مستويات مختلفة، لان البعض افترض انها قد لاتعبر عن وجهة النظر الرسمية الاقليم، ولكن حينما تحدث الشخص الاول، فأنه يكون بذلك قد قطع الشك باليقين.
ولعل الرئيس البارزاني اختار ان يفصح عن الموقف الرسمي الكردي، في المؤتمر الصحفي المشترك مع عميد الدبلوماسية البريطانية، حتى يكون وقع الرسالة ابلغ واقوى، ومن اجل ان يكون صداها مدويا لا في العراق فحسب، وانما في عموم الاوساط والمحافل الدولية والاقليمية المعنية بالشأن العراقي.
وقبل ذلك فأن البارزاني استبق تلك الخطوة بزيارة نادرة قبل اربعة ايام الى محافظة كركوك التي تعد من اهم وابرز المناطق المتنازع عليها، بحكم تركيبتها السكانية(الاكراد- والعرب والتركمان)، وموقعها الجغرافي، والثروة النفطية الكبيرة التي توجد فيها.
وقال البارزاني في لقاء مع قياديين من الحزب الديمقراطي وسياسيين ومسؤولين حكوميين في المحافظة "انه مستعد لحمل السلاح ضمن قوات البيشمركة، دفاعاً عن اقليم كردستان، وانه سيتم ارسال مزيد من قوات البيشمركة الى كركوك والمناطق الكردية خارج الاقليم لحمايتها من الارهابيين". وشدد رئيس الاقليم على "ان الاكراد لن يساوموا او يتنازلوا عن أي شبر من ارض كردستان".
توقيت خطير!
ولان خطوة الاقليم جاءت كواحدة من معطيات وافرازات الازمة الامنية الاخيرة، المتمثلة بسيطرة تنظيم ما يسمى بالدولة الاسلامية في العراق والشام(داعش) على محافظة نينوى ومدن ومناطق اخرى. فأنه من الطبيعي جدا ان يقرأها المراقبون والساسة من شتى الاتجاهات والعناوين ضمن الاطار العام لحراك الازمة من حيث مقدماتها ونتائجها الاولية والنهائية، بأعتبار ان الاكراد استغلوا-او استفادوا من-الفراغات والثغرات التي اوجدتها الازمة، واندفعوا لاشغال المساحات التي تركتها قطعات الجيش العراقي في المناطق المتنازع عليها، وهذا التحرك انطلق لتحقيق هدفين، الاول التصدي للجماعات الارهابية ومنعها من التدفق الى مناطق الاقليم، والهدف الثاني توسيع نطاق الاقليم بضم المناطق المتنازع عليها اليه، عبر وضع اليد عليها عسكريا، وهذا هو ما اكده بكل وضوح وصراحة البارزاني من كركوك ومن اربيل في مؤتمره الصحفي مع الوزير هيغ، وبالتالي تحقيق الهدف الاستراتيجي للاكراد، الا وهو ضم مدينة كركوك الى الاقليم، بأعتبارها مثلما ردد الزعماء الاكراد وفي مقدمتهم جلال الطالباني ومسعود البارزاني منذ اكثر من عشرين عاما "قدس الاكراد".
ردود افعال غاضبة
ولان الخطوة جاءت في ظل ظروف مضطربة وخطيرة للغاية، ومن دون تنسيق مع الشركاء، وبعيدا عن الدستور، فأنه كان من الطبيعي ان تخلق ردود افعال حادة وغاضبة، ومن الطبيعي ايضا ان تترتب عليها اثار ونتائج قد لاتكون طيبة، لاسيما وان الواقع السياسي العراقي يمتاز بالحساسية، وسرعة توالد المشاكل والازمات واستفحالها ارتباطا بعامل ضعف –او فقدان-الثقة بين الشركاء السياسيين.
المادة 140 من الدستور التي اعتبر رئيس اقليم كردستان انها "انتهت ولم تعد هناك حاجة للحديث عنها"، تحدد الاطر والخطوات المراحل المطلوبة لحسم قضية المناطق المتنازع عليه، والتي تتمثل اساسا بالتطبيع والاحصاء والاستفتاء.
وتنص المادة المذكورة على ان "اولا: تتولى السلطة التنفيذية اتخاذ الخطوات اللازمة لاستكمال تنفيذ متطلبات المادة (58) من قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية, بكل فقراتها .
ثانيا: المسؤولية الملقاة على السلطة التنفيذية في الحكومة الانتقالية, والمنصوص عليها في المادة (58) من قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية, تمتد وتستمر الى السلطة التنفيذية المنتخبة بموجب هذا الدستور , على ان تنجز كاملة ( التطبيع , الاحصاء , وتنتهي باستفتاء في كركوك والمناطق الاخرى المتنازع عليها , لتحديد ارادة مواطنيها ) في مدة اقصاها الحادي والثلاثون من شهر كانون الاول سنه الفين وسبعة".
تبعات القرار الكردي
ولعل الرئيس البارزاني اعتبر ان مرور اكثر من ستة اعوام على الموعد المحدد دستوريا لحسم هذا الملف، دون حصول تطور حقيقي ملموس، يعد مبررا كافيا لاتخاذ الاكراد خطوات لفرض الامر الواقع من جانب واحد، ولعله وجد في تفاعلات احداث نينوى الاخيرة فرصة للقيام بذلك، بيد ان القضية لايمكن ان تنتهي عند ذلك، لعدة اسباب، من بينها ان تجربة الاعوام العشرة الماضية في العراق اثبتت ان السير في خيار فرض الامر الواقع من قبل اي طرف، وان كان يحقق لذلك الطرف مكاسب انية، لكن على المدى البعيد سوف تكون له تبعات وافرازات سلبية على الجميع، وربما كانت طبيعة العلاقات الملتبسة بين حكومة المركز والاقليم خلال الاعوام الماضية، وغياب الثقة، واقدام كل طرف على اتخاذ خطوات من اجل تقوية موقفه واضعاف موقف الطرف الاخر ادى الى تأزم وتعقد الامور الى حد كبير، بدلا من حلحلة وحل المشاكل والعقد القائمة.
والسبب الاخر، انه من غير المتوقع ولا المنطقي ان تستسلم الاطراف الاخرى بسهولة للامر الواقع الذي يحاول ان يفرضه طرف ما، وهذه الاطراف اذا لم تجد في وسائل الحوار والتفاهم السياسي، والاطر الدستورية مخرجا، فأنها يمكن ان تلجأ الى الوسائل العنفية، خصوصا وان البيئة السياسية والامنية والاجتماعية مهيئة لذلك. ناهيك عن التسقيط والتشهير الاعلامي والسياسي الذي يصل في بعض الاحيان الى نقاط حرجة ومستويات خطيرة، وحينما نقرأ ما ينقل عن وزير الخارجية الاسرائيلي افيغدور ليبرمان قوله لنظيره الاميركي جون كيري "ان قيام الدولة الكردية امر حتمي ومحسوم"، بالتزامن مع الخطوات الكردية الجديدة لضم كركوك عبر خيار الامر الواقع، فعلينا ان نتوقع ونترقب ربطا –سواء بسوء نية او حسن نية-بين هذا وذاك، لنشهد مزيدا من الاحتقان والتأزم المنفلت وغير الخاضع لاي اطر او ضوابط او محددات.
وفي الوقت الذي يرى الرئيس مسعود البارزاني ان الاكراد صبروا عشرة اعوام بلا طائل، فأن الاخرين يرون ان الاكراد الذين ساهموا بكتابة الدستور والتصويت عليه، والمشاركة في ادارة شؤون الدولة، رغم ملاحظاتهم وتحفاظاتهم على بعض المسائل، وهي تحفظات معقولة ومقبولة في جانب كبير منها، تجاوزا وقفزوا على الدستور في وقت حساس وخطير جدا.
فالجبهة التركانية العراقية رفضت ما اسمته فرض سياسة الامر الواقع، واعتبرت زيارة البارزاني كمسؤول سياسي عراقي طبيعية الى كركوك، لكن تصريحاته غير طبيعية، اذ انها اقلقت الشارع الكركوكي والتركماني على وجه الخصوص لانها بحسب بيان للجبهة، ستؤزم الوضع السياسي فيها. في ذات الوقت الذي طالبت كتلا سياسية اخرى، التحالف الكردستاني بتقديم تفسيرات واضحة لتصريحات البارزاني خلال الجلسة الاولى للبرلمان العراقي الجديد المزمع عقدها يوم الثلاثاء، الاول من شهر تموز-يوليو المقبل.
المزيد من الاحتقانات
وقد لاتنفع كثيرا اشارات التطمين التي انطلقت من الاقليم، على ضوء ردود الافعال الحادة والغاضبة، لان القضية باتت اكبر بكثير من تعهدات ووعود تطلق عبر وسائل الاعلام فقط.
وقد لايذهب بعيدا من يتنبأ بحدوث المزيد من الاحتقانات السياسية بين الاكراد من جهة، وقوى واطراف سياسية عربية وتركمانية من جهة اخرى، حتى وان تنحى رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي، وجيء ببديل عنه اكثر اعتدالا ومرونة، يبادر الى فتح قنوات حوار وتفاهم مع خصوم المالكي من الاكراد والسنة، وكذلك بعض الشركاء في التحالف الوطني، حيث ان اي شخص يتولى رئاسة الوزراء لايمكنه تحت ضغط القوى السياسية المختلفة والرأي العام ان يجامل الاكراد على حساب كركوك، في ذات الوقت فأن الاكراد لايمكنهم الانفراد بأدارة كركوك كما هو الحال مع اربيل والسليمانية ودهوك، لانهم من جانب سيجدون خصوما على الارض وضغوطات خارجية، ناهيك عن ذلك فأنهم اذا كانوا قد توافقوا على تقاسم السلطة والنفوذ في السليمانية واربيل ودهوك بعد صراعات دامية ودموية فيما بينهم، فأنهم ربما يضطرون الى خوض صراعات مماثلة تستغرق وقتا طويلا على كركوك قبل ان يتمكن طرف ما فرض ارادته على الاخر او الاخرين!.
فكركوك التي يصفها البعض بأنها مدينة التاخي والتعايش، يمكن ان تتحول الى قنبلة موقوتة يطال شررها الجميع بلا استثناء.
مقالات اخرى للكاتب