كنت قد تحدثت في مقال سابق طلبت فيه من الزملاء الكتاب والادباء ترك الكتابة والبحث عن المفيد، فجاء المفيد من الشعب، الذي ارتفع صوته ونبرة التحدي الواضحة فيه بألغاء الرواتب التقاعدية التي يستلمها بلا إستحقاق أناس لم يخدموا الشعب، او الوطن، بقدر ما خدموا مصالحهم، والمقربين منهم، وأحزابهم، فاصبحت هذه الرواتب جزءاً من أكداس الأموال الحرام التي كنزها ممثلوا (أنفسهم) ولا أقول ممثلوا الشعب لأن من يمثل لوناً لا يسرقه، من دون حساب لحالة الأملاق التي عليها عموم المواطنين . صحيح أن هيجاناً، وإستغلالاً، حصل للأصوات المطالبة بإيقاف هذه المهزلة، وعلى طريقها كل المهازل الاخرى، التي وضع بريمر لبنتها الأولى، كي يبقى العراق ضعيفاً، مضطرباً، خالِ من الأنصاف، مفرغ من الوطنية الحقة، لأن أغلب ما فيها قد تحول إلى مجرد كلام ومزايدات لإبعاد الشبهات، إلا أنه بالرغم من كل هذا فأن ما كان صوتاً خافتاً متردداً، قد تحول إلى صدى صادح يشق عنان الافاق، أنحنت أمامه الكتل والأحزاب، من خلال رضوخها للاصوات المطالبة بأيقاف ما أَرتكب من تعدي على مشاعر الجماهير، التي طال أنتظارها على تحمل المر وصبرها على الخطل، فبدأت هذه الكتل بأطلاق تصريحات تتناغم مع مطالب الشباب . أنني أرى في مسألة الرواتب مجرد بداية لتحركات وطنية أشمل وأوسع، غايتها إيقاف كل الجرائم التي أَرتكبت تحت شعار (العراق الجديد)، الذي لم ينضح عن جديد لأن النهب وسيلة قديمة يمارسها الطغاة والمستبدين. وهذا ما يعكس أن لاجديد في سلوك وتصرف من سار على الخطى نفسها، مهما كان أنتمائهم وأصلهم، لأن من يحترم أصله، يخشى على سمعته من الخدش، لا أن يحلل لنفسه ما يُحرم على غيره، بأعذار ركيكة ليس فيها ما يُشرف الإنسانية وجذورها . أن سبب عدم متابعة الأموال المسروقة على أمتداد العقود الماضية، يرتبط بشكل وأخر مع عملية النهب الجديدة، لغرض التغطية على ما سبق ولحق من فساد، وعملية أستلاب رسمت خطوطها العناصر الفاسدة في القوات المحتلة، وسار على طريقها من جاء بعدهم بأسلوب وأخر فتوقفت مسيرة البناء، والتطور، بالرغم من المليارات الطائلة التي انفقت عليها، لأنها دخلت واستقرت في جيوب وبطون زمراً من النفعيين، والمنافقين، والفاشلين، وهذا ما يفرض علينا أن نبحث عن حقوق الشعب لدى كل من تطاول عليها، من قبل أي طرف كان لأن السكوت عن واحدة ينسحب على ما سواها من فضائح وأستهانة بالأخلاق العامة . من النقاط الاساسية التي تؤشر أصالة السياسي، أن يكون شجاعاً، وحضوره بين صفوف الناس واضح، وما عدا ذلك يظل مبتور الفهم، ويحتاج إلى شرح معمق وكثير يصعب أدراك الخفي منه، فالنزول إلى الشارع والذوبان في همومه هو ما يحتاجه الناس في الوقت الحاضر وليس التنظير، الذي لا يختلف عن ذلك الضغط النفسي الهائل الذي كان صدام يمارسه مع الشعب، لدرجة أنه احتل شاشات التلفاز ليل نهار، من دون ان يرى الناس غير صورته، ولا مجال لرؤية شيئاً آخر لعدم وجود فضائيات، ولايسمح بنصب الأطباق التي تلتقطها . أن ساستنا اليوم يقعون بالخطأ نفسه، فالشعب لا يراهم في الشارع، ولكنه يراهم يتجادلون وينظرون من خلال التلفزة، ولا وجود لتحركاتهم على ارض الواقع، فطغى الملل على الناس واصبح الكلام المكرر من دون أفعال مجرد ثرثرة، لا يستسيغها أحد بل يقابلها المتلقي بالاستهزاء والازدراء لانه يرى غير ما يسمع .
مقالات اخرى للكاتب