أمام تردي الأحوال في العراق وتشرد النخبة في الخارج، أصبح حديثهم ينصب على الحنين للماضي. وغدا الماضي المعاصر يتجسم في شخصية نوري السعيد، الحاكم الفعلي للعراق طوال العهد الملكي. لا ينفك القوم عن سرد حكاياته، الحكيم منها والطريف، والصحيح والزائف. أصبح الباشا مثل هارون الرشيد تلصق به شتى الحكايات والأقوال ولا تعرف صحيحها من كاذبها، كأي شيء من تراثنا العربي.
وككل حكايات هارون الرشيد نجد فيها الكثير من المتعة، فلا تسأل عن مصداقيتها. اسمعها واستمتع بها وتعلّم من حكمتها. بيد أن الحكاية التالية كانت حقيقية، لأنني سمعتها من صديقي يوسف محمد سليم، رحمه الله، عندما كان ضابطًا في الحرس الملكي. قال إنه وقف مكلفًا حراسة شرفة القصر الملكي في مصيف سرسنك بكردستان. وكان الباشا جالسًا بمعية أرشد العمري، رئيس الحكومة عندئذٍ. حضر الطباخ السوداني عثمان عمر، ووضع أمامهما عثقًا من تمر البرحي وصل توًا من البصرة. لم يتمالك العمري، وهو من أهل الموصل ولا يعرفون التمر، من مد يده ليلتقط أحسن ما في العثق من التمرات الناضجة ويأكلها فيما كان يتبادل النقاش بشأن تحرير فلسطين.
تضايق نوري السعيد من ذلك وأدرك أن زميله لن يترك من عثق التمر ما يستحق الأكل. ولكنه لم يعرف كيف يحذر رئيس وزراء آخر من ذلك. فنادى على الطباخ: «عثمان، أنت طباخ وتعرف بالأكل. هو التمر يؤكل قبل الغدا أو بعد الغدا؟ قل لي».
أدرك عثمان أن الباشا وضعه في مأزق خطير. فكلا الرجلين رئيس حكومة، وعراقي، رأسهم حار، وهو سوداني. فليس من الحكمة أن يزعج أيًا أحد منهما، وإن لم تبدأ الحكومات بعد في شنق المواطن عن أي كلمة تزعجها. تململ عثمان وقال بلهجته السودانية: «والله باشا فيه ناس ياكلون التمر قبل الأكل، وفيه ناس يحبون ياكلوه بعد الأكل». دبلوماسية لا غبار عليها. ولكن نوري السعيد لم يستفد كثيرًا من جوابه، كما هو الأمر في أي شيء تسمعه من دبلوماسي حاذق.
«ولك عثمان قل الصدق! مو إحنا ضيعنا حتى طعم حلقنا بهالزمان!».
قال الباشا وهو يحدق بعينيه في وجه زميله المصلاوي. ولكن كلماته كانت كافية لمسك يده عن عثق البرحي اللذيذ فلم يتعرض إليه بعد ذلك.
ولنوري السعيد كلمات خلدت في أذهان الكثير من العراقيين. حدثت مناقشة حادة في مجلس النواب وتهجموا فيها عليه وعلى سياسته. وعند الاستراحة جلس مع نفر منهم وقال لهم: «اسمعوا زين! هذا العراق مثل برميل مليان نجاسات ونحن قاعدين عليه. ما إن تزيحونا من أماكننا فوقه حتى تشوفون كل هالنجاسات تتدفق وتملى البلد بقاذوراتها وريحتها الكريهة».
وكانت كلمة من حكميات نوري السعيد. وها نحن نرى مصداقيتها منذ أن أزاحوه من مكانه فوق البرميل ورائحة نجاسات الفساد تتدفق في كل الاتجاهات، ويختنق الجميع برائحتها إلا من شبوا وتربوا عليها ممن سماهم حيدر العبادي الفاسدين.
مقالات اخرى للكاتب