قلما تنقل رجل في حياته وتقلب في مهنته مرارًا وتكرارًا كما فعل ذلك الكاتب الأميركي الساخر مارك توين. يروي كل ذلك في مذكراته عندما استقر به الحال ككاتب بارع فقال: «كنت يومًا أشتغل مساعدًا لبقال. اشتغلت معه ليوم واحد.
أكلت فيه من حلويات دكانه ما جعله يفضل أن أكون زبونًا خارج الدكان من أن أكون مستخدمًا لديه داخل الدكان. فاستغنى عن خدماتي شاكرًا ودفع لي يوميتي.
تحولت لدراسة القانون وقضيت فيها أسبوعًا واحدًا قبل أن أتخلى عن الفكرة بعد أن وجدت القانون مكتوبًا بلغة ثقيلة ومزعجة. انتقلت لآونة قصيرة في تعلم مهنة الحدادة ولكنني قضيت ردحًا طويلاً من النهار في محاولة جعل المنفاخ ينفخ النار تلقائيًا من دون أي جهد مني. طردني الحداد من ورشته بغضب وسخط وقال لي إنني سأنهي حياتي في أسوأ حال.
اشتغلت بعد ذلك في مكتبة لبيع الكتب. ولكنني هجرت هذا العمل سريعًا بعد أن وجدت الزبائن يشوشون عليّ قراءة الكتب ويقطعون تفكيري. لاحظ ذلك صاحب المكتبة فأعطاني إجازة عن العمل ولم يحدد لي أي نهاية لها. ولكنني بعد آونة من الزمن اشتغلت في صيدلية لجزء من موسم الصيف.
لاحظنا بعد التحاقي بها أننا أخذنا نبيع أنابيب لتفريغ السموم من المعدة أكثر مما كنا نبيع أدوية الصودا لمعالجة المعدة. التحقت أخيرًا بشركة للطباعة واشتغلت عامل مطبعة فيها معتقدًا أن ذلك سيفتح الأبواب لي لأكون فرنكلين الثاني بعد قليل».
فكر مارك توين بعد ذلك في الهجرة نحو الجنوب والبحث عن عمل في إحدى دول أميركا اللاتينية. اشترى تذكرة سفر وركب إحدى السفن الماخرة عباب نهر الميسيسيبي من مدينة سان لويس إلى مدينة نيو أورليانز. ويظهر أن هذه السفرة قد أعجبته كثيرًا فتقدم إلى قبطان الباخرة وسأله فيما إذا كان في حاجة إلى يد عاملة أخرى في المركب. فتمت الصفقة في الحال. ولأول مرة وجد مارك توين عملاً ملذًا شجعه على البقاء فيه. فقضى عدة سنوات يعمل في بواخر نهر الميسيسيبي... وقد ترك ذلك آثارًا كبيرة على نفسيته وحياته ومهنته في الكتابة، وظهرت هذه المؤثرات في معظم مقالاته وكتبه. تحدث في عام 1883عن حياته في تلك المرحلة فقال:
«في تلك المرحلة الوجيزة الحادة من التلمذة، التقيت بصورة شخصية وحميمية بشتى النماذج من الطبيعة البشرية التي نراها ونلتقي بها في كتب الروايات والسير والتاريخ. عندما أقرأ الآن وصفًا دقيقًا لشخصية من الشخصيات في رواية ما أو في كتاب من كتب السير الشخصية، أشعر بانجذاب كبير نحو ما أقرأ وأهتم به اهتمامًا بالغًا لسبب مهم وهو أنني التقيت بتلك الشخصية من قبل... نعم، لقد صادفتها هناك على ظهر ذلك النهر الكبير».
مقالات اخرى للكاتب