العاقل لا يلدغ من جحر مرتين، فهل فقدنا العقل، بحيث نلدغ من جحر مرات ومرات دون أن نتعلم من دروس الماضي؟ الكثير من القوى والأحزاب السياسية بدول منطقة الشرق الأوسط تردد باستمرار بأن العلاقات بين الدول لا تقوم على الود والحب، بل تستند إلى المصالح لهذه الدولة أو تلك، وحين تتغير المصالح تتغير السياسات والمواقف، فازدواجية المعايير في التعامل مع قضية واحدة أو قضايا متماثلة كثيرة جداً بالمنطقة، والمثل الكردي يقول لا يمكن أن يكون هناك مناخين على سطح واحد. ولكن الأيام تثبت بإمكانية ذلك في سياسات الدول وضد كل المبادئ، وخير مثال على ذلك سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، والتي هي الأخرى متحركة ومتغيرة على وفق مصالح هذه الدولة وليس مصالح الشريك او الحليف أو التابع. وإذا كان الموقف من العلاقات بين الدول يقوم على المصالح، فأنه ينطبق أكثر بكثير على العلاقات بين الدول من جهة، والقوى والأحزاب السياسية من جهة أخرى، التي يمكن أن تضحي بها هذه الدولة أو تلك في لحظات، حين تجد مصالحها تفرض عليها تغيير الحلف أو الشريك أو التابع. وخير مثال على ذلك سياسات ومواقف الولايات المتحدة الأمريكية وعلاقاتها في منطقة الشرق الأوسط ومع القضية الكردية في الدول التي وزعت على دولتين بعد معركة جالديران بين الصفويين والعثمانيين في العام 1514م، ومن ثم التقسيم الثاني لكردستان في العام 1918 بعد اندحار الدولة العثمانية والألمانية في الحرب العالمية الأولى وعلى أربع دول هي تركيا وإيران والعراق وسوريا، وحرم الكرد من دولتهم الوطنية المستقلة بخلاف كل القوميات الأخرى بالمنطقة. ومن قام بالتقسيم الثاني هي بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية في ضوء تقاسم اسلاب الدولة العثمانية والاتفاق على توزيع الحصص في استثمار المواقع النفطية. فهل تعلمت القوى والأحزاب الكردية من ذلك؟
لقد خذلت الولايات المتحدة الأمريكية الشعب الكردي بالعراق في العام 1975 بموافقتها على دحر الحركة الكردية التحررية المسلحة لصالح دولة وحزب البعث وإيران الشاه. وقد أشرت إلى ذلك في آخر لقاء صحفي لي مع وكالة هاوار الكردية. وحذرت الكرد السوريين من مغبة وقوع ما يماثلها معهم في علاقتهم مع الولايات المتحدة. ولا يستبعد حصول هذا مرة أخرى مع الشعب الكردي في كردستان العراق، وفي كل لحظة تشعر الولايات المتحدة إن من مصلحتها الاتفاق مع الدول الثلاث الأساسية تركيا وإيران والعراق ضد مصالح الشعب الكردي. ثم كانت المساومة بين تركيا والولايات المتحدة في الموافقة على ضرب حزب العمال الكردستاني في مقابل الموافقة على استخدام القاعدة الجوية التركية أنجرليك من قبل الولايات المتحدة. ثم جاءت المساومة الأخيرة على حساب الكرد السوريين بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، حين اتفق وزيرا خارجية البلدين جون كيري ومولود أوغلو على اختراق تركيا للحدود السورية لطرد داعش من المنطقة الحدودية. ولكن لم تعترض أمريكا على تصفية تركيا لحساباتها مع الكرد السوريين في المنطقة، بذريعة إنها لا تريد أن تقوم دولة أخرى كردية على حدودها. إن احتجاج وزارة الخارجية الأمريكية على مقاتلة الكرد بسوريا ليس سوى ذراً للرماد في عيون الكرد، ليس سوى ضحكاً على ذقون الكرد بسوريا والكرد بمنطقة الشرق الأوسط، إنها المأساة اتي ينبغي لا أن نحتج عليها فحسب، بل وأن ندينها ونتظاهر ضدها ونعلن عن رفضنا لمن يقف معهما ضد هذا الجزء أو ذاك من الأمة الكردية.
لقد علمتنا التجربة في العلاقة مع الولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط صواب المقال الذي كتبه الأستاذ محمد شرارة في منتصف الخمسينات من القرن الماضي تحت عنوان "أينما تمتد الأصابع الأمريكية يرتفع الدخان" ونشر في مجلة الوادي العراقية. إن مصلحة الولايات المتحدة يكمن في نفط المنطقة والغاز الطبيعي والمياه الدافئة وقربها من روسيا وإيران، إضافة على أهداف أخرى، ولا يهم أن ينزف سكان المنطقة الدماء لتسيل كمياه دجلة والفرات. إن نقد العلاقة مع الولايات المتحدة لا ينطلق من عقدة الشك بها وبسياساتها والتي يتذرع بها من يدافع عن تلك السياسات، ولا بالشعب الأمريكي، بل يستند إلى واقع تلك السياسات وأهدافها ومحصلتها النهائية أو عواقبها على شعوب المنطقة، ومنها شعب العراق بكل قومياته، وما يعانيه منذ أن شجعت الإدارة الأمريكية صدام حسين على اجتياح إيران في العام 1980، ثم سمحت له بغزو الكويت، ثم الحروب التالية، إلى أن تعاونوا مع إيران لإقامة الحكم الطائفي بالعراق الذي ينغص حياة الشعب العراقي بصراعات ونزاعات دموية بين الأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية والقوى القومية الشوفينية وذات الأفق الضيق. إنها الكارثة التي يعيشها الشعب يومياً، وكذا الحال بسوريا واليمن، وكوارث قادم الأيام أكثر بكثير مما وقع حتى الآن. فهل سيتعظ الكرد، كل الأمة الكردية، بهذا الواقع، أتمنى ذلك! المثل يقول: صديقك من نبهك، وعدوك من أراد تنبيهك، ولكن بعد فوات الآوان!!
مقالات اخرى للكاتب