لم يكن خرابا جميلا كما أراد له ان يكون الروائي العراقي أحمد خلف في روايته ( الخراب الجميل ) التي صدرت عام 1980، بل كان خرابا كارثيا أحرق الاخضر بسعر اليابس ، هذا الذي يمر به العراقيون منذ أكثر من عقد ، كثيرون أدهشهم ما يحصل في بلادنا التي لها من التاريخ ما جعل ابناءها عماد الامة وعقلها ، وحضارتها قبلة تقصد من شتى اصقاع المعمورة ، واذا بها تقف اليوم في نهاية الصف ، وعلى هوامش الاخرين ، مع انها لم تفقد حتى اللحظة عوامل نهوضها ومقومات ارتقائها بشرا وثروات اخرى ، ولأن الاخرين ادركوا هذه الحقيقة مبكرا ، لذا اطيح بها قبل ان يعرف العرب ما يسمى بــ(الربيع) الذي جاء شؤما بينما اريد له ان يكون خيرا .
فقد ايقنوا ان عراقا معافى وبسمات ابنائه التي يعرفون لن يكتفي بالنظر للخناجر وهي تمزق الجسد العربي ، بينما خناجر الاشقاء ظلت في اغمادها محتفظة ببريقها عندما استفرد اعداء العروبة والاسلام بالعراق احتلالا وتمزيقا ، الطعنات في العراق بينما الانظار ترنو الى مكة ، هكذا رأت شروحات ( بازل ) ان تعبيد الطريق الى مكة يبدأ من العراق ، وكل ما جرى ويجري في المدى المنظور يأتي في اطار ان الرجال هنا والعقيدة هناك ، والرجال هم العقيدة ، وبين مدرك للراهن العربي وغير مدرك تخوض الامة أعمق تناقضاتها في سوريا واليمن وليبيا، والجميع يدعي المعرفة بالحال والمآل ، فتسللت الايادي الغريبة والشقيقة للتلاعب بمصير العراقيين ، وامتدادا لتناقضاتنا ، انبرى العراقيون مقارعة لبعضها وتقبيلا للاخرى ، وبذا فأن واحدا من مفاتيح ازمتنا يكمن في خزائن الاخرين ، ومن الخزائن ما احكم اغلاقها وان ادعى اصحابها محبتهم لنا واستعدادهم لمعاونتنا في الازمات وداعش ، وصدق العميد اللبناني ريمون إده عندما حزم حقائبه متجها للمطار بقوله للصحفيين الذين سألوه عن سفرته والازمة في أشدها: اني ذاهب للخارج لأعرف ماذا يجري في لبنان.
ومع ان مسؤولينا سافروا اضعاف ما سافر إده وانفقوا من الاموال ما يعادل ميزانيات دول ، لكن سفرياتهم أفضت الى تعقيد الامور بدل تفكيكها ، فأغلب محيطنا يناصبنا العداء ، بينما نريد عراقا جديدا فاعلا في اسرته ، يا اخوان : ادارة الدول ليست كلاما انشائيا بجمل براقة واستعارات فلسفية وهمسا حالما، والدبلوماسية ليست تهريبا للسكائر ، فخرابنا يجري برعاية دولية ، ويراد لدبلوماسيتنا مهارة ليتسنى اقناع الاخرين بمشروعنا والتمكن من خزائنهم للوصول الى مفاتيح أزمتنا .
المفتاح الآخر عند الماهرين والاكفاء ، لكن هؤلاء همشوا منذ البدء يوم صنف المجتمع الى موالين وأعداء ، وداخل وخارج ، وبين من أخذوا الفرصة والمحرومين منها وصولا الى طائفتي وطائفتك ، وازدادوا بعدا عن دائرة صنع القرار عندما طالت الازمات وتشظت تداعياتها، وأصبح للفاشلين مصالح يستقتلون من أجلها بصرف النظر عن الى اين تمضي مراكب البلاد ، حتى غدا الاصلاح من بين الاحلام ، واعادتنا الى الواقع تستدعي ما هو أبعد من المربع الاول ، فصار لزاما اعادة صياغة الآليات بما يتيح للاكفاء وذوي الخبرة الوصول الى دوائر صنع القرار ، فمجالسنا ومؤسساتنا تعج بالفاشلين والفاسدين الذين تستدعي مصالحهم الالتفاف على الكفوء والنزيه الذي قدر له ان يكون بينهم . فلا قيمة للترقيع في الاصلاح ، كصعود التكنوقراط ببركات الاحزاب .
لن يكون بمقدورنا التمكن من مفاتيح ازماتنا ما لم نكن موضوعين ، نتجرد من الميول والاهواء لنقول الحقيقة بما يقطع الطريق على الارتجال والانطباعات الذاتية ، والحقيقة تقول ان العملية السياسية التي تنشد عراقا جديدا نحلم به قد خرجت عن سكتها وانحرفت مساراتها ، كما انحرفت مسارات تجارب سابقة كنا مررنا بها منذ سلمنا امرنا للبنادق بوصفها حلا ، ولكم ان تخمنوا التاريخ ، الموضوعية مفتاح لحالة الانغلاق التي نحن فيها ، وهيمنة الجاهز من القوالب في النظر لماضينا ومستقبلنا ، وانفعالاتنا الآنية ازاء الحاضر ، لابد ان يحكم سلوكنا السياسي بمعايير يضعها حكماء القوم ، بدءا من الدستور وانتهاء بتعليماتنا وضوابطنا ، وليس لاولئك الذين يفصلون المعطف تبعا للازرار ، وهذا ما حث في كثير من مفاصل العملية ، بما اتاح لقصار النظر اعتلاء منابر ما كانت تراودهم حتى في الاحلام ، ثمة مفاتيح اخرى يتعذر الحديث عنها ما لم يكن مزاج الكبار رائقــا .
مقالات اخرى للكاتب