تزل قدم ابن آدم في مزالق هذه الدنيا لما فيها من إغواءات تزينت بأبهى حليتها ، فنكص بتعاقرها عن جادة الصواب ومال إلى وحشية الغاب ، فبعث سبحانه و تعالى الأنبياء و الرسل ليُقوِّموا الأود و يعيدوا الإنسان إلى سلامة الفطرة و نقاء السريرة و صفاء البصيرة ، ومن ثم يشق طريقه في الاتجاه الصحيح نحو معرفة ذاته ومعرفة خالقه .
وتحقق ذلك فيه مرهون بحصوله على ملكة التقوى المنتجة لصفة الأرادة فيكون بها عازمًا و حازمًا ، فشرع لهم شهر رمضان دورة الإعداد الإلهي في ثلاثين يومًا من الجوع و العطش فيسمو فيه الفرد عن عالم المادة ليلتحق بصفوف الملائكة في تغلبه على شهوته وتحكمه بقرارته هنا ترسم أولى ملامح الحرية كخطوة عابرة نحو معرفة الذات قيمةً و وجودًا .
الحسين بن علي ( عليهما السلام ) شهيد هذه الأمة و الشاهد عليها ومخرجها من الظلمات إلى النور و حصنها الحصين و كهفها الأمين عن الانحراف و الهلاك ، كان في عاشورائه كأنه شهر رمضان استهدف إصلاح الأمة ( ما خرجت أشرا و لابطرا و لامفسدا و لاظالما , إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله ) كما هو الكلام في شهر رمضان في استهدافه إصلاح الإنسان بإعداده و تهيئته لأن يكون فردا صالحا قادرا على التغلب على المعاصي و تحسين أخلاقه في مسيرته نحو اكتشاف هويته تمهيدا لخلافة الله .
دروس عاشوراء الحسين محطات تعبوية نهضوية تعبيء و تستنهض إرادة الإنسان و عزمه في تجاوز ( الأنا ) ولؤمها و شحها لتنصهر و تذوب كيانا و توجها في كيان الأمة و مصلحة المجموع فيتحسس بآلامها قبل آلامه ويسعى لخدمتها قبل خدمة نفسه هذا ما فعله الحسين في ثورته .
وكما أن شهر رمضان هو أول الكلام و المحطة الأولى في السير نحو الله تعالى باعتبار أن النتائج المثمرة أنما تقتطف في نهاية الموسم لتبدأ رحلة الإنسان ، فإن طريق الحسين بالنسبة إلى محبيه و عشاقه ومريديه ينبغي أن يبدأ من لحظة استشهاده في حكاية متواصلة تتسلمها الأجيال لأنها أمانة ، من جيل إلى جيل ، فالحسين فكر و مباديء ينبغي أن تتجسد في وعي الأمة و سلوكها ليس في أيام عاشوراء فحسب وإنما تبدأ في محرم لتستمر طية أيام السنة وهذا معنى من معاني مقولة ( الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء ) .
فالمطلوب أن نعيش رسالة الحسين في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في وجودنا وعقلنا و وعينا ما دام ينبض فينا عرق بالحياة وفاءا لدمه الشريف ولنحقق غايته المنشودة في عتق الأمة من ربقة العبودية عبودية النفس و الدنيا ، وإلا فالحسين أكبر من أن تحيطه الطقوس و الشعائر التي نسمع دويها وصخب الاحتفال بها في أيام معدودة ثم نطوي صفحتها وتنهي حكايتنا مع الحسين فور أفولها ، أو يكون للحسين نهاية ؟ إذن سينتهي معنى الوفاء و الإخلاص ،
أو نعود للذل بعد العز و للعبودية بعد أن أذاقنا الحسين طعم الحرية ياله من طعم ( كونوا أحرار في دنياكم ) .؟
بل سيكون الحسين هو شعيرتنا الخالدة ، فكلما غفونا أيقضنا وكلما غفلنا نبهنا ، وفاءا لدمه الطاهر ولثورته العظمى ، بمعنى أن مبادئه التي ضحى بدمه الشريف لأجلها باقيةً فينا ليس في أيام محرم الحرام فحسب بل إلى يوم القيمة ، فنستلهم من مبادئه في طريقنا إلى الله معاني العزة و الإباء و التضحية و المحبة و الإيثار و طيبة القلب ونقاء السريرة و لطافة الروح و سمو العقل و أصالة المنهج و نفاذ البصيرة وكل معاني الإنسانية التي تقربنا الى الله .
وهكذا هو حالنا مع الحسين ( شعيرتنا الخالدة ) التي تفيض علينا بالإيمان بالله و التزام دينه و الدفاع عنه ، أما دون ذلك فإن كانت تلك الشعائر تعرفنا بالحسين منهجاً و سلوكاً لتكمل مسيرة انتصار الدم على السيف و ترتقي بالعقول سموا في عالم الفكر و بالقلوب نقاءا في عالم الطهارة و بالروح صفاءا في عالم الملائكة ، فيكون لها الدور المماثل لشعيرة الخلود في إصلاح الذات و الأمة فسننتمي لها و نتبناها نبراسا ينير لنا معرفة الحق و الحقيقة ، و إلا فلا قيمة لها لأنها أجنبيةٌ عن الحسين والرهان معقود على وعي الأمة في كشف هويتها و صدق انتمائها للحسين من عدمه والله ولي التوفيق .
مقالات اخرى للكاتب