الاختلاف و التنوع سمة العقل الإنساني في منتوجه الفكري و الحضاري ؛ فمهما شرقنا أو غربنا صعودا إلى الملأ الأعلى أو إلى تخوم الأرض السابعة لن نجد إثنين تساويا في كل شيء ، فمهما يكن الاتفاق في وجهات النظر بين من ينتمون إلى دين واحد أو طائفة واحدة أو مرجعيةٍ واحدة أو حزب واحد أو غيرها من الانتماءات فإن الزمن كفيل بكشف أوراقهم ، ليتبين بعد ذلك الرشد من الغي و تتضح نقاط الوئام و الاختلاف بينهم .
لأجل هذا فإن الذي عندي و مقتنع به ليس من الضرورة أن يؤمن به الآخر أو يذعن له ، لأن الشخصية الإنسانية تمتاز بمميزات ترتفع فيها نسبة الإنسانية أو تنخفض بحسب الثقافة و
الوعي ، الأمر الذي ينعكس على تغير القناعات و تنوع المؤثرات المتحكمة فيها و الموجهة لها .
وبطبيعة الحال إن هذا التنوع و الاختلاف فكريا و ثقافيا لهو عامل أساسي في رقي الإنسان حضاريًا ، باعتبار أن الكمال لله وحده ويسعى المخلوق دائما ليلتحق بركب العظماء ، وهذا ما يجعله محتاجًا إلى الآخرين ، ولاسيما في تلاقح الأفكار ، فما أمتلكه من مقومات المعرفة ليس بالضرورة أن يسعفني في إكمال مسيرة الرقي المعرفي الذي أطمح إليه ، وبذلك يعد الانفتاح على الآخر ضرورة حضارية ملحة لاستيعاب الطموح الإنساني نحو الارتقاء في سلم الكمال .
إذا كان الأمر هكذا فإن التقاطع مع الآخر الذي نختلف معه في الفكرة من حيث المولد و النشأة والنتائج الآثار المترتبة عليها لهو الخسارة الكبرى ليس على مستوى الأفراد وإنما على مستوى المجتمعات ، وتتجلى خطورة الموقف حينما يتحول هذا السلوك الفردي إلى منهج مجتمعي أو ظاهرة اجتماعية ملازم للوعي في مساحة العمل ، و عما قريب يصبح من أعراف الحضارة ، من هنا تبدأ الكارثة بكل ما تحمل من معنى ، لأن هذا التقاطع لايلبث أن ينتج مجموعة من الدوائر التي تبدأ صغيرة ثم تنمو حول نفسها
لتستحيل مفهوما انعزاليا عن الفكر الآخر الذي نختلف معه ثم يستفحل أمرها ليصبح وعي الفرد في ظلها مفهوما انغلاقيا ، ليحكم أخيرًا بصحة آرائه فحسب و ضلالة كل ما يفرزه الفكر الآخر ، و تستفرد بنا الأفكار التي تدعو إلى الإنعزال و الوحدة و التباعد و التناحر و التقاطع ويغدو شعار الجميع ( كل ما يرتبط بنا أو نرتبط به هو الصحيح فحسب و كل ما يصدر من الآخر فهو خطأ بالضرورة ) .
في حين أن الراجح في هذا الإطار أن ننفتح على الآخر و نحاوره و نركز على النقاط المشتركة معه ، فننطلق من كلمة سواء ، و لا أحسب أن من نختلف معه أشد قبحا و ضلالة من الشيطان الذي أبلس من رحمة الله تعالى ، وعلى الرغم من ذلك فإن الحق تعالى حاوره وأطال معه الحديث ليستجلي مكامن نيته و طموحه ، لا لأجل هدايته وإن كان ذلك ليس أمرا مستحيلا وإنما ليؤسس لمنهجية الحوار و الابتعاد عن التقاطع فضلا على أن يلقي الحجة عليه وهو أمر راجح و مهم .
، ولو تأملنا جيدا في أسباب هذه الأزمة سنجدها هي بين أن تكون أزمة ثقافة أو أزمة مثقف ، فهل عجز وادي الأنبياء مرفأ الحضارات عن إنتاج المثقف الواعي الذي يتجاوز ذاته في أحلك الظروف التي يصارعها و يتغافل و يغض الطرف عن عناصر الاختلاف ، أم أنه لا يتنازل عن بعض الخصوصيات التي يتوهم أنها تشكل ذاته ليكون في ظلها عاملاً أساسيا في إنتاج الأزمات و صناعة هويتها وتفاقم آثارها و اتساع دائرتها ؟؟
أم هي الثقافة التي باتت غريبة عن هويتها تبحث عن ذاتها فما تكاد تجدها حتى تلفظ أنفاسها ، لتقوم باستجداء الخواء من بين أحضان حضيرة التغريب ، وليبقى مسلسل الطعن وعدم الثقة بالآخر هو العنوان الأبرز ف مماحكاتنا الثقافية ؟؟
يبدو أن الثقافة العراقية أقرب ما تكون ثقافة صراعات منها إلى ثقافة إئتلاف و وئام ، لأننا نعيش خارج حدود الوطن وخارج إطار الإنتماء إلأى الهوية الأصيلة ، و الوطن في ظل هذه الإرهاصات غريب في ثقافتنا يبحث عمن يداوي جراحه ، وليعلم الجميع أن الخاسر الأكبر في كل أزمة مهما كانت أسبابها هو الوطن أولا و آخرًا ولات حين ندم .
مقالات اخرى للكاتب