شيد احمد فؤاد نجم لنفسه إهرامات من القصائد التي تغنت بالثورة والفقراء، يذهب الحكام ويبقى الحكماء، وكان احمد فؤاد نجم واحدا من حكماء مصر، يجلس على ناصية شارع الفقراء.. ولم تكن في كلماته أية ظلال لافتعال ثوري، لم يكتب شعارات باردة جوفاء بل استطاع ان يغوص في أعماق الإنسان المصري المتطلع الى عالم أفضل.. ليستخرج منها بكلمات عامية بسيطة وبليغة، أجمل ما فيها من أغنيات وقصائد راح ينثر بها الدعوة إلى رفض الظلم والطغيان، مترجماً مشاعر وأحلام وأفراح ملايين المصريين إلى كلمات حية متوثبة مليئة بالدفء والحياة والدعوة للعدل الاجتماعي
ولد احمد فؤاد نجم في زمن كان العمالقة فيه يتجولون في شوارع مصر ويجلسون على مقاهيها، طه حسين والعقاد وسلامة موسى و نجيب محفوظ ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم واحمد شوقي، فما ان كبر الفتى حتى أصر ان يكون نداً لهم، فاختار ان يكتب القصائد التي تمجد الإنسان البسيط، كان نجم من جيل أفنى حياته في التفكير والحياة وحب الناس، واحدا ممن أضاؤوا دروب مصر اكثر مما أضاءتها مصابيح الشوارع. ليتحول من سجين وفقير الى أيقونة للثورة المصرية، بعد ان عادت قصائده الى الواجهة لتتغنى بها ميادين مصر
رجعوا التلامذة.. يا عم حمزة.. للجد تاني.. يا مصر دا انتي اللي باقية..وانتي.. قطف الأماني
لاكورة نفعت.. ولا أونطة.. ولا المناقشة.. وجدل بيزنطة
المقاومة كلمة أساسية في قاموس احمد فؤاد نجم الشعري، كانت المقاومة في زمن السادات كلمة تثير المشاكل، وسط تيار سياسي جارف يهرب من فكرة الدفاع عن حق المقهورين. ويخطو سريعاً إلى بناء نظام لامكان فيه للثورة واغنياتها.، لكن الشاعر الذي ظل زبوناً دائماً للمعتقلات، رفض إلا أن يغني للمقاومة وضد تفكيك ثورة عبد الناصر، وضد اجتياح بيروت وضد قهر الفلسطينيين وتشريدهم.
"يا فلسطينية والثورة هي الأكيدة.. بالبندقية.. نرسم حياتنا الجديدة"، متمرداً على كل الأفكار التي أصبحت هي القاعدة بعد نكسة حزيران 1967. ذلك المنطق السائد الذي ظل نجم يغنّى ضده: "الكلمة دين من غير ايدين.. بس الوفا عالحر."
احمد فؤاد نجم حكاية عن زمن مختلف، الطوائف فيه عارضة، والدين فيه أقرب إلى الحرية الشخصية من الفرض الاجتماعي، والنضال ضد الظلم فرض على كل مثقف،. لكن ليس هذا مهماً، بالمقارنة مع ما حققه الرجل بنفسه. حين التقط فنون الشعر التلقائي من الزجل إلى العتابا ومونولوجات المطربين الشعبيين، ليحولها الى قصائد ستظل حية ونابضة.
عرف تقنيات الكتابة من خلال تجواله في حواري مصر، اختار حياته على طريقة الشعر: موزاييك من حكمة الشعوب وروحها الخفيفة والعميقة، يكتب عن جيفارا مثلما يتغزل بالمرأة، يبحر وراء الشعر القريب من هموم الناس،. كأنه يغنّى للشعب. مصرا على الكشف عن الثقافة المصرية الغائبة.
أشعار احمد فؤاد نجم استعادة للحياة واستعادة للبلدان التي سرقتها عروش الأباطرة، مصر التي سمعنا صوتها بالأمس هي نفسها التي كسرت القفص في عصفور يوسف شاهين لينطلق صوت أبنائها عاليا يغني مع أحمد فؤاد نجم:
مصر يامه يا بهية
ياام طرحة وجلابية
الزمن شاب وانتي شابة
هو رايح وانتي جاية
يرحل احمد فؤاد نجم بعد ان أطمأن..فالتلاميذ رجعوا من جديد يحتلون الساحات والطرقات، لم تحركهم عقائد وأحزاب محنطة، ولا سياسيون يركبون الموجة، ولا شعارات زائفة، لا يسعون إلى سلطة، لكنهم ينشدون العدل والحرية، ثورة على الظلم الذي امتد عقودا طويلة، والذي حاربه احمد فؤاد نجم مثل دون كيشوت ساخر بقصائد اقوى من كل سيوف ومدافع السلطان.
مقالات اخرى للكاتب