العجز في موازنة العام الحالي سيكون أكبر بكثير مما مدرج في مشروع قانونها ، لان أسعار النفط هبطت حتى الان الى مستويات أقل مما بنيت عليه الموازنة . في هكذا حالات تكون الاجراءات الطبيعية هي التقشف وتقليص الانفاق وتأجيل المشاريع . لكن هناك إجراءات تسبق ما سلف ، بإمكانها المساهمة بشكل فاعل في تقليص نسبة العجز ، منها وقف الهدر في الانفاق الحكومي . نعم : الانفاق الحكومي يعاني من هدر كبير في أكثر من شكل ومستوى . بدءاً من الفساد المالي الكبير وحصص المسؤولين الفاسدين في العقود والمشاريع وهي تتراوح بين عشرة وعشرين بالمئة من كلفة المشاريع والتي تضاف الى القيمة الكلية للعقود .
من أشكال الهدر التي يتعين وقفها هو الهدر في الاعلام الحكومي . لا أقصد هنا شبكة الاعلام العراقي بكافة فروعها ووسائلها ، فهذا إعلام دولة وليس إعلام حكومة، كما بينت في عمودي للاسبوع الماضي، إنما أعني إعلام الوزارات والمؤسسات الحكومية التي تنتابها حمىّ تاسيس المحطات الاذاعية والتلفزيونية فضلا عن المطبوعات الدورية من مجلات وجرائد لا تجد من يقرأها بقدر ما تجد من يستخدمها في تنظيف الزجاج أو للاكل عليها ورميها . الهدر الاكبر هو في المحطات التلفزيونية والاذاعية ، التي تتأسس دون أي ضوابط أو ردع ، وبمستوى متدنٍّ شكلا ومضمونا يبعد عنها المشاهدين . واللافت ان المضمون متشابه بين كل المحطات الحكومية وهو التطبيل لانجازات وابداعات الوزير ومتابعة حركاته وسكانته و”إفاضاته” . بات للكثير من الوزارات محطات تلفزيونية . كلفة القمر الصناعي للمحطة الواحدة سنويا لا تقل عن نصف مليون دولار ، ناهيك عن كلفة الكادر البشري والاجهزة والمتطلبات الفنية وما تتطلبه من عقود ، الى جانب الفساد الذي يرافق كل خطوة من خطوات هذا العمل . أما المحطات الاذاعية فحدّث ولا حرج . لا يتعلق الامر بكل وزارة بل انتقل السباق في تاسيس الاذاعات الى مديريات الوزارة . ففي المحافظة الواحدة تجد إذاعة لمديرية الصحة وأخرى لمديرية التربية وأخرى للمرور ورابعة للداخلية وهكذا. . علما أن الاذاعات لم تعد مسموعة الا في السيارات . مجالس المحافظات باتت تؤسس محطات إذاعية وتلفزيونية . وإذا كانت المرجعية الحزبية لرئيس المجلس غير مرجعية المحافظ ، فان “أصول” المنافسة تقتضي أن يبادر المحافظ الى تأسيس محطات مماثلة ينفق عليها أيضا من ميزانية المحافظة ، أي على حساب الخدمات التي تقدم الى المواطنين . هذا يجري بالتحديد في إحدى المحافظات التي تغرق في القمامة بحجة عدم كفاية التخصيصات المالية بينما تتنافس فيها محطتا تلفاز ومعهما محطتان إذاعيتان تابعتان لـ”الضرّتين” مجلس المحافظة والمحافظ ، وكلاهما تأكلان من المال العام الذي يشكو الان شحة كبيرة .
قبل التقشف ، لابد من خطوات جادة لوقف الهدر في الانفاق الحكومي . وإذا كان وقف الفساد المالي يحتاج وقتاً ، وكلفته زعل وعداء من كتل وأحزاب متضررة ، فان وقف الهدر في الاعلام الحكومي يمكن أن يتم بقرار بمنع تأسيس أي محطة جديدة ، والبدء بتصفية الموجود منها ، وهو ما سيوفر الكثير من المال للخزينة .
مقالات اخرى للكاتب