اندفع احد القضاة عام 2007 لاداء واجبه في زيارة (تسفيرات ملعب الشعب) للوقوف على اوضاع الموقوفين وتشخيص عيوب التعامل معهم ومشاكلهم وانتهاكات حقوق الانسان، وقدم عدة تقارير عن زياراته الصعبة، الا ان ذلك اثار بشدة غضب وتذمر القائمين على تلك المواقف والسجون ، فكتبوا يتشكون من كشفه لفضائحهم الى الادارة القضائية (التي تخاف خوفها من الحية من التنفيذيين) وبدلا من ان تشد على يديه وتدافع عن قيامه بواجبه وتجشمه عناء ذلك - رغم ان غيره صامت هامد (مغلس) - فقد قامت بنقله فورا الى محكمة الشعب، رغم انه من طائفة يجعل نقله الى ذلك المكان حينها عام 2007 قتلا له لا شك فيه، فنصحه احد القضاة من الشعب بامرين ، فاما ان يسعى لالغاء نقله الى الشعب، او يترك العمل في القضاء، لانه مقتول حتما اذا وصل هناك، فسعى الرجل بكل ما لديه من علاقات ووساطات وتوسلات حتى تم تعديل نقله الى محكمة اخرى بمكرمة من القائد القضائي الضرورة.
وفي حادثة اخرى شكلت السلطة التنفيذية لجنة في وزارة العدل للنظر في اطلاق سراح من يحكم القضاة بشموله بالعفو لاعتراضها على قرارات القضاء بشأن ذلك (خوش استقلال قضاء وخوش احترام تنفيذي لقرارات القضاء)، فتمادت تلك اللجنة اشد التمادي في تأخير اطلاق سراح من شملهم القضاء بالعفو، او رفض اطلاق سراحهم نهائيا في احيان كثيرة، رغم ان القضاء فصل في شمولهم بالعفو العام، ولا يجوز ابقائهم دقيقة واحدة بعد حكم القضاء، فاصدر احد قضاة التحقيق ـ بتوجيه من رئيس الجنايات - اوامر بالقبض على اعضاء اللجنة، فقامت الدنيا ولم تقعد في مجلس القضاء الاعلى ضد القاضي، بعد تذمر السلطة التنفيذية وبعض السياسيين من القرار، وامر رئيس مجلس القضاء رئيس الادعاء العام بالطعن بالقرار، فصدقت محكمة الجنايات قرار قاضي التحقيق، فدفع قضاة الجنايات الثلاث ثمن عدم انصياعهم للاوامر، فنقلوا كلهم في اماكن متفرقة، ليكونوا عبرة لمن يفكر في ازعاج تابعي السلطة التنفيذية او مخالفة رغبات الادارة القضائية المتسلطة على رقاب القضاة كاسد كاسر ورغم انها ارنب خاضع امام التنفيذيين والسياسيين.
واصدر احد قضاة النزاهة قرارا باستقدام احد وزراء النفط كمتهم في فضيحة كبيرة تتعلق بسرقة كمية كبيرة من النفط مع سيارتها الحكومية، وكان ذلك الوزير قد تورط فيها اما لغبائه المطبق او لتورطه المتعمد في السرقة، وقامت الدنيا ولم تقم، وحينما اصر القاضي على موقفه وبأنه مستقل في اتخاذ قراره ولا حق للادارة القضائية في التدخل فيه، اصدر رئيس مجلس القضاء الاعلى امرا بنقله تخلصا منه، واسند موقعه الى احد القضاة المقربين منه المعروفين بتنفيذ اقذر الممارسات في المحكمة المركزية، فالغى فورا امر استقدام الوزير، وحوله الى شاهد، ورفض الوزير الحضور لاداء الشهادة، فانتقل القاضي المقرب من القائد القضائي الضرورة الى دار الوزير صاغرا ودون اقواله كشاهد. اما القاضي الشيعي الذي رفض تنفيذ الاوامر فارسل الى الموصل ليعمل في محاربة الارهاب هناك، ونجى باعجوبة من معركة جرت مع الارهابيين، لولا تدخل قوات البيشمركة حينها.
وفي حادثة اخرى اتصل رئيس استئناف بغداد / الرصافة باحد رؤساء الجنايات - المعروف بتدينه وخوفه من الله - وطلب منه الحكم باعدام احد المتهمين، فرفض رئيس الجنايات تنفيذ الامر لان الامر متعلق بحياة انسان ، فنقل ـ وهو الشيعي المذهب - فورا الى محكمة الاعظمية عقوبة على عدم تنفيذه الاوامر، واحل محله قاض معروف بتنفيذ الاوامر ولو على حساب دماء الناس، وما اسهل من ظلم الناس اذا كانت هي الطريق الوحيد ليتجنب القاضي غضب القائد القضائي الضرورة وقرصته المميتة.
وفي محاكمة معروفة لسياسي بارز كان متهما بالقتل، جاءت الاوامر الى رئيس الجنايات بالافراج عنه بضغوط مباشرة من المقربين لرئيس مجلس القضاء بتأثير سياسي من جهة نافذة ومتسلطة، فرفض رئيس الجنايات الاستجابة للضغوط لان الادلة ضده تدينه بشكل لا شك فيه، فصدر الامر بنقله للتخلص منه، واحل محله قاض نفذ ما امر به، ليس لشئ، الا لكسب ود الجهة السياسية التي يتبعها القاتل، فاراح بذلك رئيس مجلس القضاء من الضغوط التي كان يتعرض لها والتي تعود على الانصياع لها بلا قيد او شرط، وحقق مصلحة لنفسه بان اصبح مقربا من تلك الجهة السياسية التي جاملها على حساب الحق والقانون ودماء الابرياء.
وتجد في القضاء الاف القصص من هذه الشاكلة التي تنفذ على القضاة دون ان يخط حرف منها على ورقة، لان الضغوط تمارس على القضاة بطريق شفوي غير مباشر بواسطة زبانية مدحت المحمود، فأذا رفض القاضي التنفيذ فان نقله سيكون لمقتضيات المصلحة العامة ، فنقل القضاة عند مدحت المحمود، ظاهره لمقتضيات المصلحة العامة، وباطنه اما عقوبة مبطلة و(قرصة اذن) قاتلة للقاضي الذي يأتي بما لا يعجب رئيس مجلس القضاء، واما لغرض ازاحة القاضي الذي يرفض تنفيذ الاوامر ليحل محله من ينفذها، واما لتحقيق الغايتين معا، اي لمعاقبة القاضي الذي يرفض تنفيذ الاوامر، واحلال غيره محله ممن يستجيب لتنفيذ اجندات رئيس مجلس القضاء غير المشروعة في دماء الناس واعراضهم واموالهم.
ويعرف القضاة في بغداد - اليوم - بانه اذا رفض تنفيذ الاوامر، او جاء بما يحرج رئيس مجلس القضاء الاعلى امام السلطة التنفيذية او القوى السياسية الممسكة بالسلطة، فمصيره النقل الى منطقة ساخنة، يرحج فيها اغتياله، لاخضاعه وجعله عبرة لغيره من القضاة، وفي افضل الاحوال فأن السني ينقل الى محكمة الشعب او مدينة الصدر، واما الشيعي فينقل الى محكمة الاعظمية او المدائن او ديالى.
لقد تحولت سلطة رئيس مجلس القضاء المطلقة وسلطة رؤساءه استئنافه الخاضعين لاوامره القرقوشيه في نقل القضاة - بلا ضوابط ولا اسس ولا حماية حقيقية - الى بعبع كبير، حول القضاة الى فئران امام تجبر الادارة القضائية وطغيانها، هذه الادارة - الخاضعة للتأثيرات والتدخلات الخارجية - سعت الى استعمال صلاحية نقل القضاة بطريقة مستهترة من اجل تنفيذ اجندات سياسية وشخصية على حساب القضاة وحقوق الناس ودمائهم واعراضهم .
والسبب ببساطة هو (قانون التنظيم القضائي) رقم 160 لسنة 1979 المخالف للدستور الذي يعطي رئيس مجلس القضاء ورؤساء الاستئناف سلطة مطلقة بنقل القضاة دون مراجعة او محاسبة من اية جهة وبلا اسباب وبلا ضمانة القرار الجماعي الذي يفترض وجوده في كل ما يتعلق بالقضاة، هذا القانون الذي كان مدحت المحمود اللاعب الاقوى في وضعه حينها نهاية السبعينيات بنفس بعثي دكتاتوري مقيت، والذي حول بموجبه القضاة الى موظفين في وزارة العدل واخضهم لسلطة دكتاتورية متحكمة، هي سلطة وزير العدل والتي تحولت الى رئيس مجلس القضاء بعد عام 2003 فحرص مدحت المحمود على ابقاء ذلك القانون ليضمن له استمرار تحكمه بالقضاء كله بجميع مفاصله، حتى تحول القضاء الى مملكة للخوف، لان ذلك القانون لا يضمن اي قدر من استقلال القضاة عن الادارة، بل يخضعهم لها خضوع رئاسي متحكم لا يتلائم مطلقا مع مبدأ استقلال القاضي، فأبقي القضاء يدار بنفس مركزي مستبد يهدر العدالة بل يطعنها في مقتل.
فهنيئا لمدحت المحمود مملكة الخوف التي يدريها دون رقابة ولا محاسبة ، لانه الرجل الوحيد في الدولة العراقية لا يراقبه احد ولا يحاسبه احد ، واوامره التي يخرق فيها استقلال القضاة ويتلاعب بها بارواح الناس واعراضهم واموالهم لا تكتب على ورقة بل تنفذ بمجرد وصولها الشفوي عن طريق زبانيته على حساب القضاة الذين يتحملون مسؤوليتها لوحدهم دونه.
هذا ايها السادة واحدا من اهم اسباب تردي اوضاع القضاء في العراق وفقدان الثقة به، انه الخوف في مملكة مدحت المحمود المحكومة بالترهيب والاستبداد، وهل تتوقعون عدالة من قاض مرعوب.