الحرية .. كلمة
في وجهه مسحة من براءة ، وعلى طرف لسانه كلمات طيّبات . إنه يبكي على التاريخ بالدموع الغزار إذا كان البكاء يغفر خطاياه ويُرمّم ضميره !.
على هذا النحو قرأت مذكرات المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي . شعرت بالمرارة وأنا أجده كمن يريد أن يزكّي لنا نفسه ، ويظهر علينا بعباءة وليّ قدّيس . فينشر الاعترافات ، ويفرج عن صفحات نائمة في زوايا العتمة من ذاكرته ، ويُدلي بشهادات وإن جاءت متأخرة ، فإنها تعويض أدبي يُقدّمه لنا على شكل كفّارة للتاريخ مغمورة بالغفران .
البرادعي يحاول أن يبرّئ نفسه من دم العراق ويغسل يديه من جثة القتيل . وأنه وقع تحت شبهة الخداع والتضليل ، وأن العراق استدرج إلى فخ الحرب استدراجاً ، وألقى الديّة كلها في رأس بوش الصغير الرئيس الأميركي السابق ، ثم في لحظة تنهمر الدموع فوق خدّيه سخيّة نديّة ، فيُصاب باللوعة حين يتذكر الملايين من الضحايا ، فالعراق الذي كانت أسلحة الدمار الشامل ذريعة للحرب عليه واحتلاله وتدميره ، هو من فتكت به جميع أنواع هذه الأسلحة بلا رحمة ولا آدمية .
في الفلوجة وحدها ، تقول تقارير الصحة العالمية ، يولد كل يوم ثلاثة أطفال مشوهين ، وبجانبهم ثمانون طفلاً من كل ألف حديثي الولادة مصابون بأمراض سرطانية !.
لذلك لا يكتفي البرادعي بعضّ أصابع الندم ، بل يطالب بمثول الرئيس بوش أمام المحكمة الجنائية الدولية ليلتفّ الحبل حول عنقه ، في حرب يعترف أنها ( لم تكن لها داع ) . ثمّ أنه يُشرك مع بوش في الإثم حكاماً وغيلان عرباً في مقدمتهم الرئيس السابق حسني مبارك عندما أوحى له أن العراق يمتلك أسلحة بيولوجية ، كان يُخبّئها في الكهوف والمقابر .
مذكرات البرادعي خصوصاً ما يتعلق منها بالعراق بوقائعه المفبركة ، سيبصق على صفحاتها الجيل القادم كلما تذكرنا سنوات الظلام . كانت كأساً من السمّ الزعاف ، وكان علينا أن نشرب السمّ الزعاف حتى أخر قطرة في الكأس .
علينا أن ننتبّه أن البرادعي الذي استيقظ ضميره متأخراً ، لم يكن بريئاً كالفجر مثلما أراد الإيحاء إلى قارئ مذكراته . وهو لم يكن ليبوح بهذه الشهادات المتأخرة بصحوة ضمير هبطت على رأسه فجأة من السماء . لكن الرجل حاول ، وهو منهمك في غمرة حياته السياسية الجديدة ، أن يلتمس لنفسه عذراً ، وأن يخرج من رطوبة التاريخ وعفونته . لذلك كان لا بد من التبرير ، وكان لا بدّ من عذر مقبول ، لكي لا يبقى يدفع الثمن فادحاً من سمعته !.
باختصار ، فإن الأسرار التي حفل بها كتاب البرادعي ( عصر الخداع ) لم تعد أسراراً ، وهنالك وقائع ووثائق يستحيل إنكارها ، وستظل شهادته مجروحة تحتاج إلى شهود ثقاة . يكفينا أن نتذكر أن محمد البرادعي كان واحداً من مشعلي الحرائق ، ومن أدوات تنفيذ الجريمة . وكان حاله أشبه بذلك الأخ الذي قال : ( اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخلُ لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين ) . والتاريخ لن يغفر له حتى لو ارتدى قميص يوسف ليغطي به سوأته ، ثم يأتي ليقول في العراق بعد عقد من التخريب : أكله الذئب الذي أكل يوسف وأنتم عنه غافلون !.
ذلك كلام حق يُراد به باطل !.
مقالات اخرى للكاتب