ليس التأريخ ما جرى حقاً، بل هو ما يتندر علينا به المؤرخون. وأعود اليوم إلى القاع بهذه الحكاية، وقد تكون مدونة في رقُمٍ بابلي مجهول. عبد الزهرة العبد، وهذا هو أسمه، شابٌ طويل، نحيف أشبه بصوماليي اليوم. عطّالٌ بطال، وماذا يشتغل أحرار البصرة كي يعمل عبيدها. ذات صباح بصري دبق ملأت سيارات الفوكس واكن (الركة) دنيانا في الويمبي بكل مستظرف ومستطرف. لم يكن البعثيون حينما جاءوا إلى العراق يملكون شيئاً يضاهون به الناس غير السيارات التي تركها لهم مدير الأمن العام محمد لافي الذي ذبحه على عتبة داره السيد سمارة الشيخلي. وقف رجال الأمن مخذولين بالقرب من سياراتهم تحت الشمس اللاهبة يتصببون عرقاً. وكان البعثي "اليساري" عبد الزهرة قد إختفى. كنا نحب اليسار وإن كان يهودياً، ونفضل الغفاري على كل الراشدين، فالشمس تشرق يومياً على الويمبي يساراً من صرائف الصبخة الصفراء، والعالية الواطئة. غابوا تماماً حينما سكبت الشمس بيضتها وسارت الحكايا، حكايةً بعد أخرى عمن ماتوا ومن حضروا. حتى جاءني بعد أشهر الروائي النادر، والفيزيائي الكبير جمال حسين علي ليهمس ضاحكاً: هل تعرف؟ كان العبد يبيت في بيت "أم نوري" كل هذه الفترة، وهي التي أوصلته منذ أيام سالماً إلى سورية؟ وأم نوري صاحبة عيال، وهي مثل كل نساء الويمبي مستورة، وغير مستورة، تسلك كل صباح الباب في سوق البصرة القديمة، أو حتى على أبواب الطواريء في مستشفانا الجمهوري العتيد، وتعود محملة فنهرع لها فرحين لنأخذ من رأسها الزنبيل الثقيل المليء بشهوة الحرام. هي لم تلتق بسارتر كي يكتب عنها رائعته "المومس الفاضلة". أم نوري أول إمرأة رفعت معولها وأهوت به على سور قلعة البعث المظلمة، وحتى قبل أن يمتلكوا سيارات السوبر التي كان يمنّ عليهم بها السعوديون. سأتذكر أم نوري حينما تبلغ روحي التراق. لم أطلب من العراق غير قصتها، أسردها حينما أقف وحدي عارياً أمام الديان الأكبر، يوم لا ينفع مال ولا بنون. بعد السقوط العظيم مباشرة، حضر شويعرٌ إلى مقهى الأدباء في البصرة وأخذ يتلو النشيد الوطني المقترح. رماحٌ وسيوفٌ وخيولٌ من الخشب، حتى غطى الزبد فمه. رفع عبد الكريم متليك كامرته النيكون من تحت التخت وقال: سمعناك. لكن هل يقوى جناحك الشمعى على مقارعة جناحي شفيق الكمالي من الذهب الخالص؟ هذه الأرضُ لهيبٌ وسنا، وشموخٌ لا تدانيهُ سما. جبلٌ يسمو على هامِ الدُنا، وسهولٌ جسّدت فينا الإبا. بابلُ فينا وآشورُ لنا، وبنا التاريخُ يخضلُّ ضيا. نحنُ في الناسِ جمعنا وحدنا، غضبةَ السيفِ وحلمِ الأنبيا. لم تمت الفاشية بموت موسليني. إنتهى هتلر لكن البذور التي غرسها عقله المظلم مازالت جذورها تمتد في العقول. من السهل علينا أن نزيل الطغاة وسجونهم، لكن يصعب علينا قتل أفكارهم المريضة التي أوجدتهم ومنحتهم القوة في قتلنا. ولكي يعم السلام الأبدي لابد من أن يحافظ البشر على عزيمتهم الدائمة في مقارعة روح الشر التي تحلق عالياً فوق الرؤوس، دائماً وأبداً.
مقالات اخرى للكاتب