مدخل
=========
التمكين هو المعادل للسيطرة الاستخبارية التي تقوم بها الدول في المناطق المحتلة او دول الجوار, والفرق ان السيطرة الاستخبارية خارجية , بينما التمكين هو فرض الامن بأسلوب استخباري داخل اراضي الدولة.
ففي الدول المستقرة امنيا لانشاهد عسكرة اوسيطرات اوعجلات عسكرية , وانما تشاهد ضباط المرور ودوريات المرور وفي بعض الاحيان نلمح بعض دوريات شرطة النجدة.
ان وراء هذا الاستقرار عمل وجهد استخباري كبيرين , ومجموعة من القوات الامنية المتخفية التي تعمل ليل نهار في كل زاوية من زوايا الوطن.
لقد ذهبت الدول المتقدمة لفرض التمكين الاستخباري على امن مدنها لانها ادركت اهمية الجهد الاستخباري مقابل العدو السري , وعرفت انه لايمكن مقاتلة العدو السري بجهد عسكري او امني ظاهري , وهو امر لطالما اخفقنا فيه في العراق الى الآن , فمنذ اعوام ونحن نواجه التفجيرات داخل العراق لاننا نفضل الدبابة والزي العسكري والسيطرة والبندقية على الجهد الاستخباري .
ان الجيوش تعمد الى دراسة العدو واختيار الاسلحة الانسب والافضل لمقاتلته والقضاء عليه , فاذا كان في المستنقعات لا يمكن استخدام الدروع ضده , وكذا اذا كان في الصحراء او الجبل او البحر , فلكل مكان نوع من الاسلحة واسلوب للقتال , فالتشخيص الصحيح يسهل المهمة كثيراً .
ومن هنا فان العدو المتخفي بزي المواطنين لايمكن فرزه والتمكن منه الا باختراقه استخبارياً ومحاصرته احصائياً وتكنلوجياً .
فالدول تبني امنها من كسب ثقة الشعب والانتشار بين الناس , فالعيون تراقب بسكوت بلا دبابات ومدرعات , وتتنصت وتدقق وتنفذ وتتغلغل وتنتشر .
================
محاور التمكين الاستخباري
================
ان احد ابرز اذرع جمع المعلومات كما ذكرنا سابقا هو ذراع التواصل مع الناس , فبرنامج التوعية والتواصل مع المواطن هو اصل العمل الاستخباري الداخلي من خلال الاستفاده من كل المواطنين وتسهيل عملية اتصالهم مع الاجهزة الامنية من خلال ارقام هواتف محددة ومعروفة بما يشبه هاتف الاسعاف الفوري والنجدة وغيرها.
وكل ذلك لايتم مالم يثق المواطن بالاجهزة الامنية وبقدراتها وبابتعادها عن التمييز الحزبي والطائفي والقومي .
كما ان من الواجب الزام كافة اصحاب المصالح بنصب كاميرات وربطها بمنظومة الامن , واعتماد الاجهزة الحكومية على تكنلوجيا مراقبة الاتصالات والكاميرات الذكية
ولابد من الانتشار الصحيح لشرطة النجدة وتقليص المظاهر العسكرية واخراج العسكر الى خارج المدن.
ولابد من الافادة من اساليب الامن الاحترازي من خلال التفتيش والسيطرات المفاجئة و الدوريات والتدقيق على الكراجات والفنادق وتفعيل الامن المناطقي وتقنين حركة الارتال العسكرية داخل المدن و تفعيل دور الشرطة مع الاحتفاظ بقوات سوات خاصة في اماكن بعيده عن انظار الناس للضرورة.
==================
محاور الامن ومراحل الاستخبار
==================
للامن الوطني اربعة محاور هي:
الامن الفردي , الامن الجماعي , الامن الداخلي , الامن الخارجي.
ففي المفردات الثلاثة الاولى (اي ماعدا الامن الخارجي) لا تُرخِّص الدول للجيش ان يتدخل , وتوضع هذه ضمن واجبات اجهزه الامن والاستخبارات فقط , وتوضع بعض الوحدات الخاصة من الجيش تحت تصرف الاجهزه الامنية والاستخبارية للافادة منها عند الضروره بترخيص من السلطات وعند الضروره القصوى.
اما المؤسسات المعنية بحفظ الامن الداخلي فهي :
وزاره الداخلية بتفرعاتها وقوات الدرك ( تسمى عندنا شرطة اتحادية) وقوات الحدود والشرطة السرية وباقي مؤسسات الشرطة , وكذا الاستخبارات بكل تفرعاتها سواء كانت الاستخبارات الجنائية والاستخبارات الوقائية والاستخبارات الداخلية والاستخبارات التخصصية كالاستخبارات المالية وغيرها , بالاضافة الى اجهزه الامن العام والتحقيقات وقوات سوات وقوات الطواريء وقوات الامن المحلي والامن السري وبعض وحدات الجيش الخاصة والقوات الخاصة وطيران الجيش والهندسة العسكرية والقوة الجوية في بعض الحالات.
ان مراجعة مراحل الجهد الاستخباري الخمسة وهي :
1- الخبر .
2-الاستخبار .
3- التحليل .
4-التدقيق .
5- التهديف.
ومراحل المكافحة الخمسة وهي :
1- المراقبة.
2- العمليات.
3- التحقيق .
4- التغذية العكسية.
5- الاحكام والنتائج.
وكل تلك الخطوات هي عمل محصور بين الاستخبارات والامن ويصبح الجيش عامل مساعد فقط.
====================
دور الجيوش في استتباب الامن
====================
ان ماذكرناه لايعني الغاء دور الجيش في استتباب الامن الداخلي , فهو يستخدم بفترات قصيرة وضرورية كأحداث الشغب او الاعتداء على الممتلكات والعصيان واعمال العنف المصاحبة للتظاهر او التمرد او النزاع المسلح او حالات الانقلابات العسكرية ولإفشال حالات التمرد العسكري او عند حوادث الطوارى كالزلازل والفيضانات وانتشار الاوبئة , وفي حالات خاصة كالانتخابات او الاعياد الوطنيه او المسيرات الدينية وحتى في الالعاب الرياضية.
ولكن ان يستمر الانتشار لعده سنوات فهو بحد ذاته تدمير للمؤسسة الامنية والشرطوية والعسكرية وتدمير للتركيبة المدنية في المدن , وكأننا نستخدم بندقية لقتل ذبابة , بينما نستطيع بالعسل قتل الالاف (كما يقول المثل الصيني).
نعم , قد تدعو الحاجة احيانا للاستعانة بالجيش للمعالجة السريعة الفعالة في حالات محدودة , كأن تعلم الاستخبارات عن وجود مجموعة تقوم بزرع عبوة فجراً على الطريق الفلاني , فللسرعة , يتم طلب طيران الجيش للذهاب الى المكان وضرب الهدف.
================
تطبيق عملي للتمكين
================
لتوضيح اهمية وطريقة التمكين الاستخباري في حفظ الامن بلا عسكرة , دعونا نقرب الفكرة في العاصمة بغداد (راجع مقالنا: كيف يمكن ان نحقق الامن في اخطر العواصم في العالم .. بغداد)
ان مساحة مركز بغداد كمدينة يبلغ حوالي 750 كم مربع تنقسم الى ضفتين كرخ ورصافة وتقسم الى 102 حي و405 محلة, وهذه التقسيمات مفيدة للتمكين الاستخباري .
ان اولى الخطوات للتمكين الاستخباري هي في اخراج الجيش الى ثكنات خارج العاصمة , لتكون سوراً وحامياً للمدينة وفي نفس الوقت تستعدي الارهاب ومنع حركة الارتال العسكرية في العاصمة , مع الاحتفاظ بقوات خاصة في بعض اماكن العاصمة لكن بلا انتشار , مع نشر صحيح لدوريات النجدة.
وكذا اخراج السيطرات الى مداخل ومخارج المدينة فقط وتنفيذ الامن الاحترازي (السيطرات المفاجئة المؤقتة) في الاماكن الصناعية والخدمية والاقتصادية والكراجات والفنادق والشركات.
وكذلك منح جهاز استخباري مركزية الجهد الاستخباري في العاصمة , وتوحيد القيادة والسيطرة وغرفة العمليات بين الاجهزة الاستخبارية والامنية وتوحيد الاجهزة الامنية مناطقياً.
ضبط حركة المرور اليومية من خلال تقسيم الحركة في الشوارع (فمثلا , يكون دوام المدارس والجامعات في الثامنة والنصف , والدوائر الحكومية قبلهم بساعة , والمصارف في التاسعة والنصف ) لتقليل الزخم المروري في بداية ونهايه الدوام, وكذا نشر مكاتب بريد في كل احياء بغداد وانجاز المعاملات الحكومية من خلالها لتقليل الازدحام , و انشاء شارع دائري او اكثر حول العاصمة.
ونصب انظمة مراقبة وكاميرات في العُقَد والشوارع المهمة والزام جميع دوائر وشركات ومحال القطاع الخاص بنصب كاميرات , وايجاد تفاعل للمواطن واشراكه في حماية منطقته وتنفيذ استخبارات تواصلية مع المواطنين , وتنظيم مسح دقيق مع تجزئة المناطق , لنشر العيون والمخبرين وربط كل مخبري منطقة بضابط استخبارات و تفعيل دور المختارين والمعلومات المحلية و
تنفيذ امن احصائي دقيق للسكان و استبدال بطاقة سكن اهالي بغداد ضمن الامن الاحصائي وجرد الاسلحة وتراخيص السلاح وتدقيق مراكز بيع العجلات وغيرها .....
=============
فوضى العراق
=============
عندما يخرج الارهابي راكبا عجلة مفخخة فهو في المرحلة الاخيرة من الجهد الارهابي (وهو التنفيذ) ولو اتينا بكل جيوش العالم لا تستطيع فعل شي امامه سوى تلقي الضربة .
ان صورة مقاتلتنا للارهابيين يشبه عملاقاً طيباً اعمى ( قوه امنية دون معلومات استخبارية ) يتصارع مع ثور متوحش ( قوة ارهابية لا تعرف الرحمة ) في قاعة للزجاجيات ( منطقه آهلة بالسكان المدنيين).
ان وجود الجيش في المدن وانتشاره في الشوارع لعدة سنوات لم يمنع التفجيرات ولم يحقق الامن ويؤدي الى تقزيم الجيش وخرابه وتفككه .
فلقد كانت لعسكرة الشارع تداعيات كثيرة , فقد اصبح الجندي يؤدي مهام الشرطي وتراجعت الطاعة واصيب بالتأثر بالحياة المدنية , وانهار الضبط وعم الفساد بين القوات المنتشرة , وهذا ما اصاب الجيش في الموصل تحديداً.
اما القوى الامنية والاستخبارات فقد اكتفت بوضع المسؤولية على عاتق الجيش , وغفلت عن واجباتها الحقيقية في البحث عن الارهاب ومواجهة المخاطر وتقليص التهديدات وحفظ الامن وكشف شبكات وخلايا الارهاب , ووصل التخبط الى مداه لدرجة ان الجيش بات يمسك الارض في بغداد بينما تذهب الشرطة الاتحادية لقتال العدو!!!.
كما استمرأ القادة العسكريين الحياه المدنية الناعمة داخل المدن , واصبحوا يفضلونها بالتأكيد على الحياة في المعسكر المنعزل , فاخذ الضابط يعمل المستحيل ليبقى متواجداً مع قواته في المدينة فضاعت الروح القتالية والانضباط , وادى الاختلاط مع المواطن الى تفشي الرشوة والفساد , فتلوث الجيش وتلطخت سمعته.
ان تحويل المدن الى ثكنات عسكرية كان له الاثر الكبير في التاثير على عدم تعاون المواطن الذي اصبح لا يطيق الاجراءات ويتململ منها, ومع تكرار طويل للتفجيرات اصبح يسأل نفسه عن مدى فائدة هذا الانتشار والسيطرات.
ان مايحصل في العراق هو تدمير دور الشرطة و تحويل قطعات الجيش الى شرطة وعناصر ضبط قضائي وضياع مسؤولية اجهزة الاستخبارات واعتماد اسلوب واحد من الامن الوقائي ( السيطرات ) مع فقدان التكنلوجيا وفقدان القيادة والسيطرة.
ومن المهمات التي دمرت في العراق انه تم عزل المسؤول الاداري للمدينة والمحافظة عن اجهزه الامن بشكل كامل , وبهذا ضاعت حلقة مهمة من ادوار الدعم السياسي والاجتماعي للامن واخذ المحافظ والقائممقام يتظاهر مع الناس ضد القوى الامنية لعدم وجود اي دور له في تأمين محافظته , بينما في كل العالم يكون قائد الشرطة مسؤولاً امام الحاكم او المحافظ.
وللاسف , حتى جهاز مكافحة الارهاب في العراق , الذي تأسس ودُعم بأموال كبيرة , قد اخذ منحى القوات الخاصة العسكرية فصار بارعاً في مقاتلة الارهاب العلني (وهي ليست مهمته بل مهمة عسكرية بحتة) لكنه فشل طيلة 10 سنوات من مكافحة الارهاب السري (وهوالهدف الذي تأسس من اجله ).
ان علينا ان نضع علاجات سريعة لهذه الفوضى المستمرة والذهاب لتمكين الامن والاستخبارات واجهزة الشرطة من العمل داخل المدن وتأليف غرفة عمليات وتوزيع المهام وتقليص تواجد الجيش في المدن بشكل تدريجي حتى يخرج تماما.
ان لدينا 200 الف عنصر امني في بغداد , ولو اكتفينا بنصفهم واستخدمنا الباقي في الجهد الاستخباري لكانت النتائج مبهرة , كما لابد من وجود منظومة كاميرات ذكية لا تكلف في كل بغداد سعر طائرة F16 واحدة.
كما ان العمل داخل المدن بحاجة الى انضباط عالي في الاداء والكتمان والسرية والهدوء لا الى الاجراءات الانفعالية والعنيفة والصارخة , فعند الدخول الى الخضراء من الجسر المعلق تشاهد دبابة, ولايدرك المسؤولون ان وجودها يخيف الناس ولايضيف امناً , كما ان تمركزها يصبح هدفاً , بينما بالامكان ايجاد مقر رعيل او اكثر قرب الجسر نضع فيه عشرة دبابات بشكل سري , وستكون قادرة في دقائق الانتشار و سنتخلص من المظهر العنيف في مدخل الخضراء ولا يكون مصدر رعب للناس , ناهيك عن ان الغموض سوف يربك من يخطط للاقتحام ويخلصنا من عسكرة الجسر دون ان نخسر قوه النار.
========
خلاصة
========
ان البحث المسلح عن العدو الارهابي السري داخل المدن وفي الشوارع دون معلومات مسبقة هو عبث لاطائل منه وامر شبه مستحيل فهو كالبحث عن ابرة وسط كومة قش .
فالامن احساس غريب لدى الانسان , وهو يتحسسه بشكل مغاير لباقي الامور , فهو عندما يشاهد السيطرة والجيش والدبابة والانتشار ومنع التجول لايحس بالامان وانما يستشعر ارتباك الدولة , بينما كلما تراجعت الاجراءت الخشنة العسكرية يتلمس المواطن الامن اكثر.
ان الدول الذكية تعتمد اسلوب الامن المعلوماتي بشكل كبير في مجال التمكين والسيطره على الوضع الداخلي للبلد مع انتشار صحيح للجيش خارج المدن لدعم نظرية الامن , فيكون الجيش عامل مساعد للامن وليس مسؤولاً عنه, والله الموفق.
مقالات اخرى للكاتب