عراقياً، تعاني الأمة من انقسام أفقي، والسلطات من انقسام عامودي، فالأمة متشظية الى أمم عرقية طائفية، والسلطات منقسمة على تعدد سلطات الطوائف والأعراق بشكل مبطن وصريح، وعلى هذا الأساس فالدولة العراقية الحالية (خامة) ما قبل الدولة، فضلاً عن الدولة الوطنية المدنية ذاتها، فلم تنجح أو تصمد حتى الدولة التقليدية التي التي انتحرت ونحرت في 2003م.
بالعموم، فإن المدارس السياسية العراقية الحديثة لم تعتمد وتطور ثقافة وطنية مدنية قادرة على انتاج نواة وطنية مدنية صلبة للمجتمع والدولة، ففشل لديها مشروع الدولة/الأمة. إنّ مشروع الدولة فشل وانتحر على يد المدارس السياسية العراقية منذ عهد التأسيس للدولة العراقية الحديثة 1921م بسبب فشل البناء العضوي الوطني المدني للمدارس العراقية التي فارقت أهم معايير بناء الدولة الحديثة وقي مقدمتها المواطنة والديمقراطية والتعددية الشاملة. واليوم نحيا وسط ارهاصات التأسيس لمشروع دولة لم تتضح معالمها بعد، ولم تنجز شروط وطنيتها ومدنيتها ووحدتها بعد.
النواة الوطنية المدنية الصلبة
لم تتشكل بعد نواة صلبة وطنية مدنية عراقية قادرة على انتاج مجتمع ومن ثم دولة وطنية مدنية. إنّ النواة الوطنية المدنية الصلبة تتصل بتكامل ثلاثة مستويات:
1- تكامل القيم المدنية التي تنتجها المدينة (منظومة الفضائل المدنية الاجتماعية والسياسية..) المستلة من روح المدينة على حساب روح البداوة أو القرية في انتاجها للمجتمع، ولم تتشكل -عراقياً- بعد أية روح مدنية أو حتى مدينية، فلقد قضي على المدينة كنسق جدلي وسياق ابداعي منتج للتطور التاريخي، وأيضاً قضي على المدنية بفعل غياب قيمها وضماناتها وحواضنها.
2- سيادة الضمانات المدنية التي تنتجها الدولة، وتتمثل بحقوق المواطنة المدنية الديمقراطية، وفي مقدمتها الحقوق السياسية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
3- توافر الحاضن المدني كنسق ومؤسسات، والحاضن للثقافة المدنية هنا هو المجتمع المدني، ولم يتشكل بعد مجتمعنا المدني. إنّ نسق مدنية المجتمع يرتبط بثلاثة عوامل: الرابطة والوعي والأداء، فنسقية المجتمع المدني تنتظم على أساس من المواطنة القانونية والثقافية الكاملة، وعلى أساس من المواطنية الفاعلة في العلاقات النسقية (عمودية وأفقية) بين الأفراد والمؤسسات والدولة، وعلى أساس من الأداء (الفردي والجماعي) المسؤول المستند الى القانون والسلم.
خارطة طريق
المفترض، أنّ الهدف النهائي للعملية السياسية الحالية هو انتاج الدولة الوطنية المدنية، فالعملية السياسية (خارطة طريق) لإنتاج هذه الدولة،.. وبصراحة، لا أجد العملية السياسية الحالية قادرة على انتاج هذه الدولة، والمصدات هنا ذاتية وموضوعية لا يمكن القفز عليها أو تجاهلها بسهولة،.. فعلى سبيل المثال: هل يمكن التأسيس لدولة مدنية في ظل (هجانة) طبيعة مشروع الدولة القيمي المتصل بماهيتها وهويتها؟ هل يمكن لديمقراطية الأعراق والطوائف المعتمدة كأساس لإنتاج الدولة من توفير بنى دولة واضحة النسق على مستوى التشريع والقرار والمؤسسة، وهي التي تقوم وتتقوم على وفق مبادئ إنقسام السلطة والمحاصصة والتوافق المستبطن لحق النقض العرقي والطائفي؟ وكيف يمكن للديمقراطية التوافقية أن تشتغل وسط انهدام شبه كلي عانت وتعاني منه جميع بناءات وانساق المجتمع والدولة العراقية؟ ثم كيف يمكن تجاوز الكوابح الذاتية للأصل النظري للديمقراطية التوافقية المعتمدة وهي التي تستعيض عن المواطنة بالمكوّن العرقي الطائفي الإثني، وتتجاوز استحقاق الديمقراطية في صناعة القرار لحساب مطبخ التوافق، وتصيب أمة الدولة بمقتل جراء اعطائها الإعتراف والحماية لمبدأ المكون على حساب مبدأ المواطنة؟ وأيضاً، هل يمكن التأسيس لثقافة مدنية قاعدية مع احياء واعتماد ثقافة الهويات الفرعية وتصدرها كفاعل في النسق الجدلي السياسي الثقافي المجتمعي؟ وعن أية صيرورة للدولة نتكلم ولم تحسم بعد مراهنات الرؤى والإرادات الكبرى المتصلة بطبيعة الدولة وشكلها ومنظوماتها ومشروعها الإنساني؟ وكيف لنا معالجة انحلال المدينة وغياب قيم المدنية مع غياب مشروع الدولة القيمي المتصل بقيم المدنية وضماناتها وحواضنها؟... هذه وغيرها أسئلة تتوقف أجوبتها على نمطية الحسم للصراع الدائر على كسب معركة الدولة.
المطلوب
لتحقيق النواة الوطنية المدنية الصلبة التي ترتكزها جميع البناءات الفوقية من مجتمع ودولة وسلطات وفاعليات.. لابد من توافر ثلاثة شروط تتماهى في لحظة تاريخية مناسبة لتنهض بمشروع الدولة الوطنية المدنية، وهي:
1-كتلة تاريخية، وأعني بها، نخبة تأسيس الدولة التي توحد رؤاها واراداتها لتبني مشروع الدولة الوطنية المدنية.
2-البناء الدستوري والقانوني القائم على وفق الأسس الديمقراطية المدنية، والذي يحسم نوع وهوية المشروع الإنساني والسياسي المدني الديمقراطي.
3-البرامج والسياسات المجسدة للمشروع الوطني المدني في جميع حقول المجتمع والدولة.
إنّ خط الشروع لتشكيل النواة الوطنية المدنية الصلبة يتجلى بلحظة تاريخية مناسبة لبدء مسيرة التحول في كيانية المجتمع والدولة، وهي لحظة يجب خلقها إن لم تتوافر، وهي لحظة وعي وإرادة وريادة تحمل التاريخ لأفق مغاير في جدلياته ومعاييره ومرتمساته، وهي وظيفة الكتلة التاريخية التي تحمل على عاتقها صناعة التاريخ.
إن انهدام الأمم وضياع فرص نهوضها التاريخي مقترن دوماً بريادة أو نكوص كتلتها التاريخية المعنية بمصيرها، واتصور أننا –عراقياً- لم نغادر بعد مربع التشكيل لمشروع الدولة، وهنا علينا توظيف هذه اللحظة التاريخية لإنجاز الثلاثي العضوي الوطني المدني (الكتلة التاريخية والبناء الدستوري والبرامج والسياسات)، والعمل على تراكمها والإنطلاق بها لتشكيل النواة الوطنية المدنية الصلبة، لتبدأ مرحلة الصيرورة الجديدة للمجتمع والدولة.
الكتلة التاريخية المدنية
أشدد على مصيرية مشروع الدولة على يد الكتلة التاريخية (على حد تعبير غرامشي)، فإنّ مشروع الدولة العراقية المدنية –بعد التغيير- رهن انبثاق الكتلة التاريخية السياسية المدنية العراقية المتحررة من الهويات العرقطائفية والولاءات الجهوية المسيسة والطموحات السلطوية الضيقة، الكتلة التاريخية القادرة على توحيد رؤيتها للدولة وفلسفتها وهويتها ومشروعها، والمنبعثة لإعادة انتاج الذاكرة والواقع المنقسم نحو مشروع وطني مدني واضح وحاسم، والمؤهلة وعياً وأداءً لتجاوز التناقضات والنشوزات الراهنة التي خلفتها عهود الإستبداد وتداعيات الفوضى والإنقسام، والقادرة توظيف اللحظة التاريخية المناسبة لتبني مرتسمات نوعية للوحدة والتنمية والتطور.
لم تتبلور بعد الكتلة التاريخية العراقية، فالانقسام في الرؤية والتباين في الأجندة والتعارض في المشاريع هو السائد،.. وما لم تتوافر عناصر النهوض للكتلة التاريخية العراقية فلن يتم انجاز مشروع الدولة الوطنية المدنية الموحدة.
حسين درويش العادلي
aladili@hotmail.com
مقالات اخرى للكاتب