كان يقال اغزل بيت شعر قالته العرب قول جرير:- ( إن العيون التي في طرفها حور.... قتلننا ثم لم يحينا قتلانا ) , وكان يقال أهجى بيت شعر قالته العرب هو كذلك قول جرير :- ( فغض الطرف انك من نمير.... فلا كعبا بلغت ولا كلابا ) , وكان يقال امدح بيت شعر قالته العرب :- ( ألستم خير من ركب المطايا .... وأندى العالمين بطون راح ) , وأجمع النقاد والأدباء على أن هذا البيت للشاعر جرير والذي عاش في العصر الأموي هو أفضل بيت قيل في المدح على الإطلاق , وكان يقال أرثى بيت شعر قالته العرب :- ( فقلت له إنَّ الشجي يبعثُ الشجى ... فدعني فهذا كلهُ قبرُ مالك ) , ويقال أكذب بيت قالته العرب قول الأعشى: ( لو أسندت ميتًا إلى صدرها .... عاش ولم ينقل إلى قابر ) . ولربما عادت ( حليمة إلى عادتها القديمة ) وعاد العرب إلى عاداتهم فأصبحوا يقولون هذا امدح وأرثى واغزل وأهجى وأفضل وأحسن قائل , وعادت المدرسة البصرية والمدرسة الكوفية تتجادلان في اللغة العربية , وعاد الأحسن عندهم والأفضل لديهم ليس له شكل ولا أفق ولا صورة ولا معيار, وتحت عناوين كثيرة وصفات متعددة , فهذه الممثلة أفضل ممثلة للعام 2012 , وهذه الفنانة أحسن فنانة مسرح أو تليفزيون , وهذا ألإعلامي أفضل إعلامي للعام 2011 , وهذه الإعلامية أفضل إعلامية , وهذا أبدع شاعر وذاك أفضل صحفي , وهذه أفضل جريدة , وكثرة الاستفتاءات والاختبارات وحمل كل( مبدع ) من هؤلاء الملة عنوانه ورحل إلى حيث النشوة والسكينة و يشار إليه بالبنان . نحن نسال هنا من هي الجهات المانحة لهذه الألقاب والعناوين والصفات ..؟ ومن هم الممنوحون ..؟ لقد صارت هذه العناوين بلا معنى , فكل يوم تطلع علينا جهة ما تمنح هذا أو ذاك أو تلك لقبا معينا كالأفضل والأروع والأحسن والأبدع والألمع حتى صارت بلا معنى معنوي أو مادي لها . إن المؤلم حقا أن بعض حالات التكريم وغيرها تتسم بالاخوانيات والمجاملات وشراء الخواطر وعلى أساسها – الاخوانيات والمجاملات - تمنح الدروع والقلائد والأوشحة والشهادات , ويتسم بعضها الأخر بالمصلحة والمنفعة ( وشيني وأشيلك ) ( وكرمني وأكرمك ) مع كامل احترامي لمن نالوا التكريم باستحقاق ومن جهة تحترم نفسها ومهنيتها - ونحن نسال إلى متى تبقى هذه المهازل .؟ والى متى يبقى ديدن بعض المؤسسات والجمعيات والمنتديات والوزارات والمديريات هكذا بحيث تترك عملها الرئيس وتتجه هذا الاتجاه وتصبح حاضنة لأكذوبة كبرى تدمر الإبداع والمبدعين , والثقافة والمثقفين , والإعلام والإعلاميين , والأدب والأدباء , والفن والفنانين , وكذلك تشارك بصناعة أبطال بالوهم وتستنسخ لنا نماذج من ( دون كيشوتيين ) يقاتلون طواحين الهواء بسيوفهم الخشبية , ولا اعتقد يختلف معي أولي الألباب لو قلت : أن في مجتمعنا مجاميع كبيرة وكثيرة أخذت تتنامى بيننا يغلب عليه الطابع ( الدون كيشوتي ) وأينما ندير عيوننا نجدهم لأنهم يتواجدون في كل المجالات وفي جميع الاحتفاليات التي يقيمها المعنيون في الفنادق والقاعات , وتصل بهؤلاء - الدون كيشوتيين - الوقاحة والصفاقة فينفشون ريشهم ويجلسون في الصفوف الأمامية وكأنهم اكتشفوا الزرنيخ .!! ولكن حقيقتهم أصفارا على الشمال لو قارناهم مع القامات والرواد الذين يجلسون في الصفوف المتناثرة والأخيرة , لان الرائد والمبدع الواقعي يدل على ذاته بذاته وبمنجزه الناطق , والأخر الفارغ هو بمثابة طبل يعلو صوته وهو خال وأجوف . والسؤال الأخير .. متى تستقر بنا الأمور كي نفضح ونعري ونكشف زيف النكرات والطحالب والزعانف والأدعياء والقرود, ومتى يأخذ كل ذي حق حقه ..؟ .
توضيح
الدون كيشوتية تعني الادعاء ببطولات وصفات وألقاب كارتونية للشعور بالفوز والانتصار ، وهو تعريف مأخوذ من الرواية العالمية «دون كيشوت» للكاتب الأسباني ميشيل دي ثيربانتس. والله وحده يعلم كم عندنا من هذه النماذج التي اشتهرت ببطولات وهمية ونالت ألقاب كارتونية مضحكة.
مقالات اخرى للكاتب