كان الندامى من الشعراء، والعشاق من المعاميد، وأهل الهوى والغرام، يبالغون في وصف حبيباتهم فيشبّهونهنّ بالقمر.
وعندما أقسم روميو أنه سيحفظ الحبّ في قلبه فلا يخون حبيبته جوليت قال: أقسم بالقمر الجميل الذي يشبهك. ثمّ اكتشف علماء الفضاء أن القمر تراب بلا ماء، وأن الكلاب لا تنبح، والذئاب لا تعوي، إلا عندما يشع نور القمر، الذي يسهر في ضوئه العشاق، والشعراء، والمجانين!
وفي كتاب (الإمتاع والمؤانسة) سبع وثلاثون ليلة من الليالي الجميلة الملاح، الساهرة حتى الصباح، جمعها لنا أبو حيّان التوحيدي. ليال كلها أسمار، وأقمار، وأشعار، وعشاق، وأشواق، وأشياء وأشياء!
وكان صديقنا الشاعر الرقيق قيس لفتة مراد يتلذذ مرة، ويتأفّف ألف مرة على هاتيك اللآلئ المتناثرة في الليالي المجنونة القمراء، والقبلات العميقة، وهو القائل: (ولا مَرهَم بعد يرهم ولا كَعدات كَمريّة).
وفي ليلة مقمرة من ليالي الزمن الآفل قصدنا أنا وأصدقاء مجلس العلامة الدكتور حسين علي محفوظ، وحين أدركنا النعاس، قلت لمحفوظ: إن الشاعر سعدي الشيرازي عاش أكثر من مائة سنة، ولمّا سُئل عن عمره الطويل كان جوابه: أحببتُ كثيراً، ولا شيء كالسّهر يطيل العمر، فالمحبّون لا يعرفون النوم لأنهم لا يعرفون اليقظة. يومها ابتسم محفوظ ملء شفتيه، وأنشدني قول عمر الخيّام:
فما أطال النوم عمراً ولا..
قصّر في الأعمار طول السّهر!
وفي الأيام الأخيرة من حياته، أحزنتني أحوال الأديب الشقي يوسف نمر ذياب. كان يقف أمام نافذة صغيرة في غرفته، يفتحها وينظر في السماء طويلاً، ويقول كلاماً يشبه الندم، أو الغزل من الشعر: يا قمر، يا قمر.. أنا قتيل شفتيك!
وكان صديقنا الشاعر البديع صفاء الحيدري يحلف لنا إذا اختلفنا في مسألة بقوله: (حلفت بالسّمر وبالقمر) فنصدّقه في غرامياته ونحن نضحك.
وفي اليابان تنتشر في أعياد الميلاد ورأس السنة تذاكر سفر، وبطاقات ملونة مطرزة بعبارة (أهلاً وسهلاً في رحلة ممتعة إلى القمر). وهناك حكاية تقول: إن برج بابل أسقطه القمر!
وقرأت لأديب ايطاليا ألبرتو مورافيا على لسان رجل مشكلته أنه لا يعرف كيف يحدد النسل، فيقول: نحن العشاق الفقراء غير قادرين على السهرة، فماذا نفعل؟ إننا ننام في ساعة مبكرة من الليل.. ويجيء الأولاد!
ويوماً كانت أمسيات بغداد شديدة الزحام، وليلها كثير السهر. ثمّ جاء زمن تحولت الأمسيات الثقافية إلى أصبوحات، والليالي الملاح إلى مآتم وأشباح.. فأين من عينيّ هاتيك الليالي يكون النوم حراماً، والبدر تماماً، وأين ذلك البريق؟! ثمّ اتسعت المسافات وتباعدت، وتفرّقنا كل واحد منّا في طريق، واختنقنا بالعبرات، وتلاشينا في الضياء، وجاء من بعدنا آخرون.. فاتبع أية نجمة في السماء تدلّك على مجالسنا!
مقالات اخرى للكاتب