هو مفهومٌ كثيراً ما يتداول في الموضوعات الغنوصية و أخبار التصوّف. ويرتبط أيضاً بالدراسات الدينية وغيرها. ولقد لاحظت في الآونة الأخيرة كثرة استعمال هذا المفهوم. خصوصاً مع بروز حركات دينية فرعية كثيرة ترّوج لهذا المفهوم. اذكر حينها عندما كنت طالباً في المرحلة الأولية في الجامعة المستنصرية عام 2007. حيث كنت أشاهد ملصقات جدارية كثيرة تتحدث عن الحب – العشق الإلهي. وهي محاولة استرجاع وتشبث بمفاهيم الزهد والتصوّف. وهي بالتأكيد مراجعة تأريخية تنعكس على الحاضر لتمرير مفاهيم أو أفكار مُعينة من قبل بعض الحركات الدينية الإنفعالية. مع ملاحظة إن استخدام هذا المفهوم في الوقت الحالي ربما لجذب اكبر عدد من المؤيدين والداعمين خصوصاً وإن للمفهوم جاذبيته. و لقد استخدم هذا المفهوم في الحركات الدينية التي تعتمد على عملية حرق المراحل في صناعة رجالاتها وأتباعها. وبالرجوع إلى محيّ الدين بن عربي المتصوّف الأكبر والحسين بن منصور الحلاّج. يمكن أن نلحظ استعمال هذا المفهوم في أشعارهما وكتاباتهما صراحة أو ضمناً. يقول المتصوّف الفذّ الحسين بن منصور الحلّاج :
لي حبيبٌ أزور في الخلوات
حاضر غائب عن اللّحظات
ما تراني أصغي إليه بسمع
كي أعي ما يقول من كلمات
كلمات من غير شكل ولا نطق
ولا مثل نغمة الأصوات
فكأنّي مخاطب كنت إيًّاه
على خاطري بذاتي لذاتي
حاضر غائب قريب بعيدٌ
وهو لم تحوه رسوم الصّفات
هو أدلّ من الضمير إلى الوهم
وأخفى من لائح الخطرات
الحلاج هذا، يبدأ شعره بوصف الله بالحبيب. بحيث يزوره الحلاج في خلواتهِ. والمفهوم كما يبدو عند هؤلاء المتصوفة – نقصد مفهوم الحب الإلهي – يعني الاندماج مع الذات الإلهية. أو الانصهار بها. بحيث تكون هناك ذات واحدة وليست ذات عابد ومعبود – عاشق ومعشوق. الحب هنا يحصل عندما يصل المتصوف إلى مرحلة توحيد الذات – الاتحاد مع الذات المطلقة. وهي وإن كانت تماهي مع الله غير إنها اقرب إلى الخيال – الوهم. لان المتصوّف يبدأ بمقامات متعددة خلال رحلتهِ الصوفية وهي توحيد الصفات و توحيد الأفعال و توحيد الذات. وهي عملية تماهي مع الذات المطلقة / الله. وهي معادلة بالتأكيد غير متكافئة : المريد هو إنسان محدود بطبيعتهِ، يتماهى مع الكمال المطلق : الذات الإلهية اللامتناهية. هذا التماهي إنما يكون بالحب أو العشق الإلهي. فإلانسان كما يقول السيد كمال الحيدري مفطور على حب الكمال. فالعشق الإلهي هنا يكون الغاية منه هو الكمال: كمال المريد. ولا يتحقق هذا الكمال إلا بتوحيد الذات ( الاندماج مع الذات الإلهية ). فالله في نظر المتصوفة يحبنا قبل أن نحبه. ولذا فمن يتوق إلى الكمال عليه أن يحب الله ويعشقه. وزيارة الله تكون في ذات المتصوّف – المريد. فالله ليس خارجاً عن ذات المريد طالما انه قد وصل إلى مرحلة " توحيد الذات ". ومن هنا نرى الحلاج يبين إن الذات الإلهية المطلقة اللامتناهية حلّت في الذات الإنسانية المحدودة التي هي ذات المتصوف / المريد. وان ما يمكن أن نصف به حالة العشق التي يمر بها المتصوف ليست دقيقة إلى حد كبير. لأننا لم نتذوق طعمها أو نجرّبها. وشتان بين أن نتحدث من خلال تجربة وبين أن نتحدث من خلال تجارب الآخرين. عموماً فالمتصوف هنا إنما يحوّل عبادته إلى عشق – حب للذات الإلهية. وهي محاولة رائعة للتقرّب من الله أكثر ولتحمّل أعباء هذه الرحلة الصوفية المتعبة. إذ إن المتصوّف يحاول أن يبني علاقة شخصية مع الله عن طريق الحب . فغاية المتصوف هنا الكمال/ الوصول أو الحلول بالذات الإلهية. وبالتالي فإنه يحاول أن يصل بإي طريقة ممكنة لهدفه وأفضل طريقة برأي الصوفي هي الحب – الهيام بالذات الإلهية بغية الحلول بها. ثم ماذا بعد الاندماج بالذات الإلهية ؟ هو تساؤل سأتركه لمقال آخر لأنه سيخرجنا من موضوعنا.
والملاحظ من قول الحلاّج :
ما تراني أصغي إليه بسمع
كي أعي ما يقول من كلمات
كلمات من غير شكل ولا نطق
ولا مثل نغمة الأصوات
إن اللقاء بالذات الإلهية ليس لقاءا صحفياً أو لقاءاً تقليدياً كما نلتقي نحن يومياً مع أصدقاءنا. انهُ لقاءٌ من نوع خاص يتحدد مجاله المكاني في ذات المريد، غير إن مفهوم الزمان يختلف. هناك زمن خاص لا نعيه. ولا يحتسب بدقائقنا وبساعاتنا. وحده المريد يعرف ذلك الزمن. مما يعطي خصوصية كبيرة للتصوف وجميع إفرازاته الطقسية. واللقاء هو لقاء ذات مع ذات. هو ليس حواراً لفظياً والا بطل أن يكون صوفياً. لان الذات مع الذات المطلقة لا تتكلّم. فهو حوارٌ خفي لا نعرف أسراره وكيفية استمراريته وطريقة تفاعل المريد مع الذات المطلقة. هو يهيم وينفصل بروحهِ وجسده عن كل هذا العالم الواقعي. لان هذا العالم بحد ذاته عائقاً كبيراً للمتصوف منذ بداية رحلته إلى أن ينتهي. فالمريد هنا لا يتحدث بصوت مع محبوبهِ. وإنما يكون الإصغاء والهيام هو سيد الموقف. فالمريد هنا يتجاوز و يهمل كافة حواسه : بصر – سمع – نطق الخ .وصولاً إلى حالةٍ من التأمّل الذهني والهيام والانفصال التام عن العالم. كل ذلك لأجل الوصول إلى معشوقه. يقول جلال الدين الرومي : إن للعشق لغة لا ينطق بسواها، ولا يفهمها إلا أهلها"...
يقول السيد الحيدري بخصوص الحب الالهي :
من مظاهر حكمة الله تعالى المختارة والمُبيّنة في القرآن الكريم وحدة المسلك بين تزكية النفس وتطهيرها معنويّاً للوصول بها إلى أعلى مدارج الكمال وبين معرفة الله تعالى. ويمكن توضيح ذلك من خلال مقدّمات ثلاث:
المقدّمة الأولى: إنّ الإنسان قد خُلق مفطوراً على حبّ الكمال. ومعنى كونه مفطوراً على حبّ الكمال وطلب تحصيله هو أنّ الإنسان في أصل خلقته قد خُلق على كيفية مخصوصة هي حبّ الكمال المطلق وطلبه.
المقدّمة الثانية : إنّ هذا الحبّ بنكتة فطريّته لن يكون قابلاً للتبديل والتحويل والتغيير والتغيّر، وهذه الحقيقة ثابتة عقلاً ونقلاً. أمّا عقلاً فإنّ التبديل أو التحويل أو التغيير يعني فقدان الأصل؛ لأنّ حبّ الكمال ليس أمراً عارضاً على وجود الإنسان، وإنّما هو كيفيّة مأخوذة في أصل تركيبته ونشأته، فيكون افتراض عدمه افتراضاً لعدم الإنسان. وأمّا نقلاً فلقول الله تعالى : فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ . وما دام الإنسان مفطوراً على حبّ الكمال وطلب الحصول عليه، فإنّ هذا الحبّ وهذا الطلب لن يتبدّلا أو ينطفئا أبداً، إذاً لا تبديل لخلق الله تعالى. وهكذا جرت سنّة الله في الإنسان كباقي سُننه في الكون خالدة باقية أبداً.. فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً . فحبّ الكمال وطلب تحصيله هما سنّة الله سبحانه في خلقهِ، وهما من أصول الفطرة الأولى التي فطر عليها الإنسان، ولا ينتقض ذلك بما نشاهده من انحرافات جسيمة عن مستلزمات هذه الفطرة السليمة والصبغة الحسنة.
المقدّمة الثالثة: إنّ الكمال غير المتناهي, مصداقه الأوحد هو الله سبحانه وتعالى. فالتأمّل في مجموع هذه المقدّمات ينتج عنه أنّ الإنسان إذا عرف الله تعالى فإنّه سوف يُحبّه بالضرورة، وذلك لأنّ حبّه لله تعالى انعكاس وترجمة فعلية لحبّ كماله الشخصي والذاتي، وهو طالب له ما دام فاقداً له حتّى إن كان مطلوبه يحصل عليه ضمن حدود ضيّقة في محلٍّ ما، فكيف إذا علم أنّ مطلوبه موجود بشكل مطلق غير محدود؟ فلا شكّ أنّه سوف يكون أشدّ طلباً له ورغبةً به.
من خلال ذلك يتّضح لنا أنّ مرحلة ومسيرة طلب الكمالات لن تنتهي عند حدّ معيّن ما دام الطالب محدوداً ـ وهو الإنسان في حدود بحثنا ـ والمطلوب مطلقاً. وحيث إنّ المعرفة بالشيء ـ في إحدى معانيها ـ هي الإحاطة به، فكيف يُحيط المحدود باللا محدود؟ (1)
إذن الإنسان مفطور على حب الكمال. وهو لا يستطيع أن يكون كاملاً إلا إذا عرف لله جيداً. وعندما يعرف الله جيداً فإنه سيحب الله ويهيم به. وإجمالاً فإن التصوف هي رحلة لمعرفة الله عن طريق العشق. هكذا اختار المتصوفين طريقتهم الخاصة. المسافر هو المريد، والطريق هو العشق، والهدف هو الله . والمتصوف لا يمتلك غير العشق ابداً. لأنها الطريقة الوحيدة التي يعتقد أنها تمكّنه من لقاء الله. لان الله لا يرى ولا يمكن أنّ نشعر به. عندما سُأل الإمام علي: بما عرفت ربّك ؟ قال : بما عرّفني نفسه .. قيل وكيف عرّفك نفسه ؟ قال : لا تشبهه صورة ولا يحس بالحواس ولا يقاس بالناس.
فالتجربة الصوفية إذن تجربة ذوقية وجدانية خاصة لا يفهمها إلا من مارسها. وبالمفهوم الصوفي : أن تحب يعني أن تكون إلهاً ... فالعشق الإلهي هي حالة أو ممارسة صوفية معقدة تتداخل فيها ظروف ودوافع كثيرة يحاول من خلالها المتصوف الوصول إلى الذات المطلقة. بل الملاحظ إن حالة العشق والقبول تنسحب إلى الناس أيضاً. فالمتصوف يبدأ بقبول كل الناس وعشقهم فضلا عن الله. يقول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي :
لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ ... فمرعى لغزلانٍ وديرٌ لرهـبانِ
وبيتٌ لأوثانٍ وكـعــبـةُ طـائـفٍ .......وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ
أدين بدينِ الـحـبِ أنّى توجـَّهَـت ركائبُهُ..... فالحـبُ دينى وإيماني