امرأة في حوالي العقد الرابع من عمرها ملتفــّة بالعباءة السوداء وربطة رأسها السوداء تظهر في الصورة وهي في احد شوارع بغداد الغارقة بالمياه والاطيان وفي يدها عصا طويلة تحاول ( غرسها ) في الارض ، ظننت أول ما نظرت للصورة انها واحدة من صور المعاناة التي انتشرت على صفحات الفيس بوك للعراقيين وما عانوه من فيضانات مدنهم بعد موجة الامطار الاخيرة .. لكنني عندما دقـّقت النظر مرة اخرى في الصورة رأيت رجلا ً يحمل كاميرا تصوير احترافية يقف خلفها ببضعة أمتار وهو يتابع خطواتها بأهتمام هذا غير المصوّر الذي يقف أمامها وأخذ هذه الصورة وتبيّن لي بعد قراءة التعليق ان حاملة العصا هي نائبة في البرلمان العراقي وانها لم تكن تتحسس طريقها في الاطيان التي غطـّت شوارعنا ، بل كانت تبحث عن ( فتحة ) المنهول لتدكـّها بعصاها وتزيح الاطيان الجاثمة على صدر الشارع !!!
نائب ظهر في عدة صور وقد كف ّّ بنطلونه الكابوي وأمسك بيده ( ماسحة ) وهو يكنس الماء من احد الشوارع ، نائبة ( مدمنة ) ظهور على احدى الفضائيات انتشرت لها هي الاخرى صور تظهر فيها ( متلفلفة ) بعباءتها وتمسك موبايلها في احدى يديها يحيط بها بعض الشباب في احد الاحياء ، محافظ ( أخذه الواهس ) فتمدد على ( دوشك ) في مكتبه وغطى نفسه ببطانية مقلدا ً الزعيم الخالد ( عبد الكريم قاسم ) وبطريقة سياسيينا المبتكرة ( صوروني .. واني مغلـّس .. ) ،
أمــّا ما حصل أيام محرّم فتلك حكاية أخرى لها صورها الخاصّة ، فنائب ظهر بمواجهة ( شيش كص ) عملاق وهو يطعم المارين ، سياسي اخر ومن المرشحين لمنصب حكومي كبير ظهر في عدة صور وهو ( يلــّف ) الفلافل بالصمون في احد المواكب الحسينية ، مسئولين في الحكومة ونواب ظهرت لهم صور وهم يشاركون في مواكب حسينية كثيرة ، وغدا ً عندما ستحل ّ اربعينية الحسين ( ع ) سنرى العديد من الساسة يتصورون في مواكب الماشين للزيارة أو اللطم او في اطعام هذه الجموع ،
في الانتخابات السابقة كانت بوسترات المرشحين تـُظهرهم باحلى بدلاتهم و ( بوزاتهم ) وهم ينظرون ( لمستقبلهم ) بعد الانتخابات ، بوسترات الانتخابات هذه الدورة ستحمل صور نفس السياسيين ببدلات العمل الزرقاء والجزمات التي يلبسها المواطن العادي وهو يخوض غمار الاطيان في شوارعنا ويبتكر احدهم تسمية نفسه ( خادم ) فمن خادم بغداد لخادم البصرة لخادم الناصرية وبابل وباقي المحافظات المنكوبة ، وللحق نقول فهؤلاء خدّام مصالحهم وكتلهم فقط . منتهى السذاجة حين يطلب رئيس كتلة سياسية من ممثليه في البرلمان أن ينزلوا للشارع حاملين المكانس والسطول والكركات ليكنسواها من المياه والاطيان وكلنا نعرف ان جيشا ً كاملا ً لا يمكنه تنظيف شوارع غير مبلطة وتصريف مياه من مناطق تفتقر لشبكات التصريف ولو كان هؤلاء القادة يفهمون في السياسة شيء أو يحبوّن المواطن حقا ً لسألوا ممثليهم في الحكومة والبرلمان أين كانوا حين شـُفِطت مليارات الدولارات ولم يذهب شيء لتوفير الخدمات التي تغنينا أن نرى ممثلينا في الشوارع يحملون الطاسات ليجرفوا بها المياه الاسنة ، أين كان قادة الكتل حين كان السياسيين في الحكومة والبرلمان منشغلين بتسقيط بعضهم البعض وملأ جيوبهم وأرصدة كتلهم في البنوك من أموال الميزانية ، في كل دول العالم التي تحترم شعوبها تدخل السلطة الرقابية ( البرلمان ) في حالة انذار مع حلول أي كارثة في البلاد وتراقب وتحاسب السلطة التنفيذية على انجازها وتعاملها مع الازمة أمــّا عندنا فمع بداية أزمة الامطار القاتلة ألغت رئاسة البرلمان جلسته وأعطت عبر شاشات الفضائيات عطلة للنواب!!!!!!. هذا عن التشريعيين أمـّا عن التنفيذيين فالمصيبة لم نرى لها مثيلا ً في التاريخ ، رأينا بأمّ أعيننا سذاجة مسئولين ( يقبعون ) على هرم بعض المؤسسات الحيوية في الدولة ، وهل من سذاجة أكبر من سذاجة أمين بغداد الذي تكلـّم في ( حضرة ) رئيسه المباشر عن ( صخرة ) أنزلها ( الاعداء ) في أنبوب التصريف الرئيسي ، ربما يستطيع السيد الامين أن يشبع فضولنا ويخبرنا كيف استطاع الاعداء أن يـُنزلوا هذه الصخرة في الانبوب دون أن يكسروه في حين اضطرّت الامانة التي تعرف كل متر في الانبوب واماكن الربط فيه أن تكسره ( وتنعل سلفاه) حتى تخرج هذه الصخرة الملعونة ، أم يا ترى هل ان الاعداء عملوا ( خبطة ) من الاسمنت والحجارة وانزلوا غواصا ً للانبوب ليبني هذه الصخرة داخله ؟ ون كان الامر كذلك ، أين كانت الامانة وجيش العاملين فيها و ( أعداءنا ) يسرحون ويمرحون في منهولات مجارينا؟؟؟ والاكثر سذاجة من كل هؤلاء ، هي الجهات التي تتلقى وتصدّق هذه التأويلات وتكافيء الفاشلين بترقيتهم !!!
لقد أثبتت كارثة الغرق الاخيرة مقدار تشظـّي وتقسّم قادة العراق ونوابه وتخندقهم الطائفي والقومي وابتعادهم عن معانة الشعب واستغلالهم لمصائبه ( كأزمة الفيضان ) لتلميع صورهم امام الناخبين أو لتسقيط بعضهم البعض ، والا فما معنى أن ينزل وزير التخطيط ( تيار صدري ) الى الشارع بجزمته وكادر من المصورين ومحرري الصحف والفضائيات ووزارته لا تملك شافطة واحدة ولا عامل واحد تساعد في حل الازمة ، وزارة التخطيط كما نعرف وزارة تتعامل بالارقام والبيانات المهنية فمالها وما للاطيان في الشوارع ان لم يكن الوزير يبحث عن مغنم انتخابي له ولكتلته ، أما كان أولى به أن يتابع نسب انجاز المشاريع الخدمية في انحاء العراق ونسب الفساد والتلكأ فيها (وهذا من صميم عمله) ليكشفها للجهات الرقابية ، أما كان الاجدر به وبوزارته أن يصنـّف الشركات التي استلمت المقاولات والمشاريع في ارجاء العراق ويصدر جداول بالشركات جيدة الانجاز والشركات السيئة والمتلكئة ويعممه على الوزارات والمحافظات لغرض ابعاد السيئين عن المقاولات أليس هذا عمل وزارته؟ ألا يخدم العراقيين لو أنجز عمله بشكل أفضل من خدمتهم و هو يتمشى مع جيش من الحماية والمصورين في المناطق المنكوبة دون أي شيء يقدمّه لهم؟
أمـّا وزير التربية ( القائمة العراقية ) والذي رأيناه قبل مدة ينتفض بقوة لمصلحة معتصمي كركوك الذين هاجموا قوات الجيش واعتدوا عليها وراينا الوزير يسهر معهم حتى الصباح ويطلب توفير الخدمات لهم ، لكننا لم نراه ومئات الالاف من طلبتنا غرقت مدارسهم وانقطعوا عن الدراسة، لم نراه يزور منطقة متضررة ويبحث مع المسئولين كيفية تهيئة المدارس واعادتها لاحتضان طلبتها ( وهذا من صميم عمله ) ، أما وزيري الصحة والتجارة ( التحالف الكردستاني ) فمن صميم عمل وزير الصحة أن يزور مناطق الفيضان ويتفقد احوال من تهدمت المنازل على رؤؤسهم ويتحضّر مع كل امكانيات وزارته تحسبا ً لتفّشي الاوبئة التي لاسمح الله تنتشر عادة بعد الفيضانات ومن صميم عمل وزير التجارة تفقـّد مخازن وزارته في المحافظات والتأكد من كفاية المخزون الستراتيجي فيها وعدم تضرره بالامطار وتهيئة السايلوات والمخازن لاستلام المحاصيل التي قد يسوّقها المزارعين في تلك المناطق ، الوزيرين المذكورين لم يراهما أحد منذ الفيضانات حتى اليوم (ربما اعتبروا غرق محافظات الوسط والجنوب عطلة لهم تستوجب سفرهم للراحة في الاقليم؟ ) ، أما نوابنا في البرلمان فحالهم ليس بأحسن من حال أخوتهم الوزراء ، فبعضهم كانت الفيضانات فرصة لهم كدعاية انتخابية واخرين اكتفوا بمهاجمة الحكومة ( رئيس الوزراء أقصد ) من كردستان أو من عمان!!
مفارقة جميلة استوقفتني في جلسة البرلمان الطارئة التي عقدت بعد اسبوعين من غرق العراق ، احدى النائبات أظهرت كتابا ً رسميا ً عمّمه وزير البلديات الصدري يـُجبر فيه الشركات التي تنفذ مشاريع وزارته بوضع صورة للوزير بحجم واجهة منزل وهو يرفع يده باشارة النصر علما ً ان انجاز وزارته هو (0.4% ) فقط ، تذكرت حكاية الزعيم عبد الكريم قاسم حين زار احد المخابز ووجدهم علـّقوا له صورة كبيرة وكانت عجينة الخبز اصغر من وزنها المحدد فقال لصاحب الفرن : أريدك تصغـّر صورتي وتكبـّر كرصة الخبز !!!!
يا ترى أما حان لساستنا أن يدركوا مقدار اسفافهم بما يقومون به من استغلال بشع لمعاناة البسطاء ، وهل يدركون مقدار اشمئزاز العراقيين منهم ، وهل يعرفون كمّ النكات والسخرية الذي نالوه في صفحات التواصل وبين العراقيين ، أم هل اصبحت جلودهم جلود تماسيح ميتة الاحساس !!
مقالات اخرى للكاتب