المثقف طالما كررت انه ذلك الموسوعي المنتج. وهذان العنصران - الموسوعية والانتاج - لا ينفصلان , فالموسوعية غير المنتجة خزين ترابي , والانتاج الذي لا يقوم على اساس الوعي الموسوعي كسراب بقيعة .
اما مفهوم ( المثقف ) اليوم فهو على قسمين : واقعي واصطلاحي . والمثقف الاصطلاحي هو الذي يتم ادراجه عادة تحت العناوين الثقافية فرضا او اكراها , في حين قد لا تتعدى ثقافته الجلوس على المقاهي واحتساء القهوة , او ربما يكون من مثقفي موائد الخمر والليالي الحمراء , اما المثقفات الاصطلاحيات فهنّ عادة لسن بحاجة الى اكثر من ملابس شفافة وانواع من البودرة الفوقية والتحتية , حتى وان كنّ لا يفككن الخط .
والكثير من متصدري المشهد الثقافي العراقي اليوم هم ربائب عالم المثقف الاصطلاحي , وبعضهم كان يسرق جهود وابداع الاخرين قبل 2003 , وينشر تلك الاعمال باسمه , مستغلا نفوذه البعثي ايام نظام البداوة الهدّام . وقد عاد هؤلاء اليوم يعملون مع كل اصناف السياسيين البراغماتيين , ويحصدون الجوائز والهدايا ويزدادون نفوذا , سيما خلال السنوات العشر الاخيرة التي تصدى فيها ارباع المتعلمين لدفة السلطة في مختلف المؤسسات العراقية .
لكنّ حديثنا في المثقف الواقعي , الذي يملك موسوعية قادرة على الانتاج فعلا . وهؤلاء ايضا انقسموا الى خطين , حيث تجمعهم الامكانية الموسوعية الضخمة , لكن يفترقون في الانتاجية , حيث هناك انتاجية ايجابية وانتاجية سلبية .
ان مجموعة الظروف والضغوط والاغراءات والمحن والتنافس تسببت بتيار ضاغط كبير على نفسية المثقف العراقي , حيث وضعته على مفترق طرق , امّا الصمود والحفاظ على مبدأه ونقاوة قلمه وانتاجه , لكن عبر الوقوف بوجه تيار دنيوي مقيت شرس بهيمي , او السير مع التيار والعيش بهستيريا لا منطقية .
لقد حافظ الكثير من المثقفين والمثقفات على استقلاليتهم ولم يبيعوا اقلامهم او ابداعهم , ولازالوا ينتجون ويتألّقون , الا انهم في الغالب يخسرون الدعم المؤسساتي او المالي او الخ , غير انهم يعيشون حالة من الطمأنينة والسلام النفسي والسمو الفكري , تجعل منهم ارقاما صعبة وتختصر في كل مبدع منهم فيض امة .
اما القسم الاخر من المثقفين والمثقفات الموسوعيين فإنتاجهم موجود , لكنه سلبي , بمعنى مدفوع الثمن لصالح جهات وافراد ومؤسسات تملك المال والنفوذ , لكنها تفتقد الحق وتفتقد الغائية والنبل .
نعم , هذا النوع من الانتاج الثقافي المباع تحت وطأة الظروف والضغوط فتح سوقا يتسافل يوميا بالمنتج الابداعي , كما يتسافل بشخص منتجه من المثقفين .
اصبح من المألوف قيام المؤسسات السياسية والجهوية بشراء مجمل الانتاج الابداعي للمثقف , واستغلال هذه الجهات ثقافة ولسان وقلم هذا المثقف بما يخدم مشاريعها , والتي يفتقد القائمون عليها عادة للثقافة والحضور اللازمين . وتصل هذه العملية في النهاية بذلك المثقف الى الحضيض الاجتماعي , وتجعله العوبة بيد مجموعة من الحمقى وارباع او انصاف المتعلمين , حتى يذوب تلقائيا في عالمهم الاحمق دون وعي .
في احد المسلسلات العربية المصرية دفع رجل الاعمال لإحدى النساء المحترمات المحتشمات ما يقرب من مليوني جنيه مقابل تقبيل يدها فقط , فعاتبه مدير مكتبه , واخبره ان المبلغ كبير نسبيا امام تقبيل يدٍ فقط , وكم سيدفع لو اراد منها ما هو اكثر واكبر , فأجابه رجل الاعمال انّ هذه المليونين جنيها هي لشراء شرفها الذي لازال موجودا , لكنها عندما توافق وتسمح بتقبيل يدها ستكون قد باعت اخر دروعها وستبيع كل جسدها باقل من عشرة جنيهات ! .
وهكذا هو المثقف الذي يبيع عقله وثقافته من اجل المال او الجاه والنفوذ , فهو مستقبلا لن يجد من يشتري منه شيئا , لأنه سيكون قد تحول عبدا ذائبا في فنجان سيده .
الانسان المثقف الذي يبيع عقله او قلمه وابداعه سيصير بالتدريج كتلك القرية الخاوية على عروشها , حيث بئر معطلة وقصر مشيد .
وقد نرى وضوحا اكبرا لهذه القصة في عالم الاعلام , والذي وصف الشهيد الصدر الثاني القائمين عليه - حين وجوده - بما مضمونه ( كلهم دنيويون ) .. ونحن لا نقول ان زماننا كزمان الشهيد الصدر , لكننا نقرّ ان الغالب على الاعلام اليوم المشاريع الجهوية التنافسية لرؤوس اموالٍ متصارعة , يمثّلها على الارض تجّار الحروب وزعماء العصابات , لذلك فبيع المثقف نفسه لوسائل الاعلام الغالبة على الساحة هو كمن يكون قد باع روحه للشيطان .
وحين دخول عالم الاعلام الدنيوي المتصارع يجد الانسان نفسه بعد ذلك غارقا في بحر من الضياع الفكري , يصعب الخروج منه , لذلك حين يوفّر الله تعالى فرص استنقاذٍ للكثير من المثقفين من براثن النخاسة الاعلامية نجدهم لا يستطيعون اخراج انفسهم والعودة الى الذات النقية , لانهم يكونون قد نسوا البصيرة تحت تأثير اضواء البصر .
الملفت والمحزن ان هذا القسم الاخير من المثقفين الذين باعوا ارواحهم يصبحون في الغالب عرضة لتلاعب من هم اقل منهم شأنا بكثير , بل لا يملكون حق تقرير المصير لمنتجهم الابداعي ! .
ويمكن ايجاز الحالة التي يعيشها امثال هؤلاء المثقفين المباعين بإيجاد تسميةٍ مناسبة لهم , حيث انهم ( مثقفو الماكياج ) . والذين تتلخص وظيفتهم بتجميل الوجوه القميئة والقبيحة , واجراء عمليات التجميل بعد كل تشوه يطرأ على جسد مؤسسة او جهة عفنة .
مقالات اخرى للكاتب