مما لا غبار عليه هو أن داعش استطاعت أن تحقق باقتحامها سامراء فوزاً تكتيكيا عسكريا مهماً، لأن عمليتها هناك امتازت بالسرعة والمفاجأة في نقطة حيوية، تبين أن خط دفاعها ضعيف ويفتقر إلى الجهد الأستخباري، الذي بإمكانه دق ناقوس الخطر في الوقت المناسب، كما أنه يؤشر نوع العلاقة بين عصابات داعش والسكان المحليين، الذين من دون تواطئهم لا يمكن لداعش أن تصل إلى هذه المدينة، التي كانت يوما ما سبباً في حرب تصفيات طاحنة، كادت أن تذهب بالعراق بعيداً في طريق الدمار الشامل .
أن العلاقة الطيبة بين داعش وأبناء القرى المحيطة في سامراء التي تجمعت بها عصاباتها لتهاجم قطعاتنا العسكرية فجراً، تتطلب منا وقفة جادة ودراسة شاملة ( إن كان يعنينا هذا الأمر ) لما حصل هناك، وأن نعيد النظر في تصرفاتنا مع المواطن العراقي أينما كان ووجد، وهذا ما عليه معظم الدول، حيث تضع في الاعتبار كرامة مواطنيها حيثما حلوا ورحلوا، وأن لا نبقى نتحرك ونظارات البصير تلف أعيننا، أو كما يفعل (حنداري ) الحصان .
في العلم العسكري هناك مصطلح أسمه المناورة الحربية، يعني في وقت السلم: تدريبات عسكرية الغاية منها رفع كفاءة القوات وتطوير أدائها وتعزيز مهاراتها الميدانية، أما في وقت الحرب: يعني الهجوم المتحرك المباغت والسريع والمفاجئ من دون علم القوات المقابلة، وهذا ما حصل في سامراء وأقدمت عليه داعش في وضح النهار، وهو ما يؤشر وهن الأداء الإستخباراتي، إما لعدم الاهتمام به، أو لضعف تمويله وكلاهما معيبة، أو أنه يعني عدم تعامل القيادة العسكرية المحلية بشكل إيجابي مع جرس الإنذار، الذي ربما دقه في تحصيناتها أولي الشأن من أصحاب المعلومة الدقيقة، فضلاً عن أنه يعني ضعف اللامركزية العسكرية، التي تتطلب اتخاذ قرارات سريعة من صغار الضباط تتفاعل مع الأوضاع المتغيرة على الارض .
أما في قاموس اللغة فأن المناورة تعني الخديعة، وهو عمل محسوب لإحباط معنويات الخصم، وهذا ما دأب عليه البعض عند كل محاولة عسكرية يتم التخطيط والتهيؤ لها لضرب داعش في الفلوجة، حيث تتصاعد أصوات ماكرة بعضها ينادي بطرح مبادرات لا وجود لها ولا سامع، وبعضها الأخر يطالب بحقن الدم العراقي زوراً وبهتانا، مع أن كل النتائج تشير إلى إنه نازف فعلاً ومنسكب على الارض، ويجري في كل الاتجاهات سواء طرحت هذه المبادرات على طاولة البحث أم لم تُطرح .
لقد تفننت داعش في قتل العراقيين، إما عن طريق المفخخات، أو الاغتيالات، أو الكمائن المزيفة على الطرق الخارجية، أو استهداف نقاط السيطرات، وكل ذلك يحتاج إلى استطلاع وتجسس واختراق للقوات الأمنية، وتزوير للوثائق وارتداء الزي الأمني، وشن حرب نفسية من القنوات الإعلامية المتواطئة، ومع أن داعش انسحبت من سامراء وأن هذا يعني هزيمة في المفهوم العسكري، إلا أنه حقق لها نصرا معنويا تتحمل القيادة العسكرية في سامراء مسئوليته، ولو قدر لداعش أن تتمركز وتحول القتال هناك إلى حرب شوارع، لأصبح من العسير على قواتنا العسكرية حسم المعركة من دون خسائر جسيمة، وكما حصل في حمص التي لولا خبرة القوات السورية المكتسبة في حرب المدن التي تؤازرها قوات حزب الله التي تجيد هذه الحرب، لما أُجبر أكثر من ألفي داعشي على طلب النجاة والتوسط للخروج من المدينة القديمة، وبينهم ضباط ملثمون قيل أن فيهم سعوديين، وقطريين، وإسرائيليين وغيرهم ولولا أدارة المعركة بشكل جيد من قبل الجيش السوري لما اضطرت داعش للرضوخ، وهذا ما ينطبق على الفلوجة، إذ أن خروج داعش أولاً هو مفتاح الحل، وليس سحب الجيش كما يعرض البعض لغايات رخيصة، مستهزئا بدماء الشعب ويختبأ تحت خيمة ما يسمى بشيوخ العشائر .
وهو ما يُذكرنا بمحاولات معاوية بن أبي سفيان فتح مدينة القسطنطينية المحصنة في الأعوام من ( 49 إلى 56 هجرية ) كي يكون هو الامير الذي قال عنه رسول الله : ( لتُفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش ) كي يقارن نفسه بالإمام علي، وكذلك فعل عبد الملك بن مروان، ولم يتحقق الفتح إلا بعد مرور ثمانية قرون على يد السلطان محمد الفاتح، بالرغم من حصانة أسوار المدينة، وفشل سلاطين كُثر قبله حتى هيأ الله للسلطان محمد المهندس المجري ( أوريان ) صانع المدفع العملاق ذو الوزن الثقيل (700 طن ) وبه أستطاع أحداث ثقوب كبيرة في جدران هذه المدينة المنيعة ليقتحمها الجيش العثماني، وأن هذا المدفع موجود حاليا في أحد المتاحف البريطانية .
وأن كانت الامثال تُضرب ولا تقاس، لذا فأن تفخيخ المنازل من قبل داعش، وزرع الالغام والعبوات المحيطة بمدينة الفلوجة، حولها إلى مدينة محصنة كما كانت القسطنطينية، قد يطول تمركز هذه المنظمة الإرهابية فيها، وهذا يتطلب من صاحب كل مبادرة تطرح لحقن الدم العراقي إن كان صادقا، أن تكون من أولياته الأجهار بخروج داعش أولا، كي يعم السلام، لأن كل ما يقال عن حل وداعش متمركزه فيها ليس أكثر من هراء، حمى الله الجيش، الشعب، الوطن .
مقالات اخرى للكاتب