يزعم الدواعش انهم يطبقون الشرع الإسلامي في حربهم ضد الشيعة، وأنهم يسعون إلى الانتقام وأخذ الثار، ولكن أي ثأر يطلبون؟ فإننا لو حسبنا فترة ظهورهم إلى الوجود كعصابات منظمة فلن تتعدى سنتين أو ثلاث سنوات على الأكثر، فمتى صار لهم عند الشيعة ثأر يطالبون به؟ وما هو ذلك الثأر؟
ولأجل حل هذه الإشكالية يجب أن نفترض أن الثأر الذي تتحدث عنه داعش هو ثائر قديم، أسبق من ظهورها الفعلي على الساحة. ومن المفروض أن نبحث عن جذور الثأر هذه في فرق أخرى سابقة على ظهور هذه المنظمة الإرهابية. ولكن قبل ذلك علينا أن نحدد انتماء داعش العقائدي إلى فرقة ما من الفرق المعادية (تاريخياً) للتشيع، وحتى لا نضطر إلى الخوض في تفاصيل نشأة الفرق الاسلامية، سأرجح ثلاث فرق فقط كان لها وقعات دموية (مشهورة) مع الشيعة، فعسى أن يفيدنا ذلك في معرفة المصحح لدعوى داعش الثأرية من شيعة أهل البيت، إذ ربما يكمن في بعض تلك الوقعات.
- الفرقة الأولى: الأمويون وأتباعهم، وكانت لهم مع الشيعة عدة وقعات مشهورة أبرزها: صفين (وربما أيضا الجمل) والطف.
- الفرقة الثانية: الخوارج وهم جماعة مسلحة يتزعمهم بعض القراء انشقوا عن جيش أمير المؤمنين عليه السلام بعد حادثة التحكيم المشهورة (بين عمرو بن العاص وأبي موسى الاشعري)، وكانت لهم وقعة مع الشيعة بقيادة امير المؤمنين عليه السلام، معروفة تاريخياً بمعركة النهروان.
- الفرقة الثالثة: الوهابية، وهم جماعة ظهرت في ارض نجد بزعامة محمد بن عبد الوهاب ودعم آل سعود المتحالفين مع اليهود وبريطانيا، وقد قام الوهابية بغزو مدن الشيعة في العراق وخاصة كربلاء والنجف في بداية القرن التاسع عشر (سنة 1806 م)، تحت شعر الجهاد من أجل التوحيد.
ولعل انتماء داعش إلى الفرقتين الأخيرتين أظهر من انتمنائهم إلى الفرقة الأولى، فالوهابية في الواقع هم امتداد للخوارج ولا يختلفون عنهم في شيء سوى تمذهبهم بمذهب ابن حنبل وأخذهم بآراء ابن تيمية، وهم فقط من بين سائر فرق المسلمين من يذهب إلى تكفير الشيعة حيث يعتبرونهم خارحين عن ملة الإسلام لاعتقادهم بالشفاعة والتوسل واعتنائهم بمراقد الأولياء والأئمة.
ولو حاولنا العثور عن أصل أو سبب للثأر المفترض في كل فرقة من هذه الثلاث فلا نجد له أثراً. فلا أثر له عند الأمويين، إذ ليسوا بأصحاب ثأر مع الشيعة، بل العكس هو الصحيح، إذ الشيعة هم الذين يطلبونهم بالثأر، لقتلهم الحسين عليه السلام وأهل بيته في طف كربلاء سنة 61 هجرية، ولم يتم القصاص منهم حتى هذه اللحظة، نعم كان للشيعة ثورات ضد الأمويين تحت شعار (يال ثارات الحسين)، ولكن لم تكن تلك الثورات وافية بتحقيق نصاب (الأخذ بالثأر) إلّا جزئياً أو بشكل محدود، ولهذا السبب فإن الإمام المهدي عليه السلام سيقتل تحت هذا الشعار نفسه بقايا الأمويين من ذراري قتلة الحسين عليه السلام حين خروجه في آخر الزمان؛ لإنه هو ولي الدم الذي يحق له أن يطلب بدم الحسين دون سائر من تقدمه من ثوار الشيعة. وأما الخوارج فمن الواضح أنهم قد ثأروا لواقعة النهروان بقتل أمير المؤمنين عليه السلام في محرابه في مسجد الكوفة على يد الخارجي عبد الرحمان بن ملجم. فلا ثأر لهم مع الشيعة آخر بعد هذا المصاب العظيم فقد استوفوا ثأرهم وزيادة، والشيعة أيضاً لم يصرحوا أن لهم مع الخوارج ثاراً بعد أن اقتص الحسن والحسين عليهما السلام من قاتل أبيهما. وأما الوهابية فقد استباحوا كربلاء وقتلوا من أهلها مقتلة عظيمة ووصلوا إلى مشارف النجف، ولكن الوهابية لم ينطلقوا من ثار مبيَت ضد الشيعة بل كانوا ومازالوا ينطلقون من تفسير خاطيء لمفهومي (التوحيد والجهاد)، حيث ظنوا أن الشيعة (بل بعض السنة كذلك) قد ارتدوا عن الاسلام وتجب مقاتلتهم.
وبعد أن اتضح عدم وجود ثأر لداعش مع الشيعة بالاستناد إلى أصولهم وجذورهم في الفرق الاسلامية، ينبغي أن نبحث عما يبرر دعوى الثار المرفوعة ضد الشيعة في حوادث تاريخية منفصلة، ونظراً لكون استقراء التاريخ الإسلامي بحثاً عن جذر يصحح ثأرية داعش مع الشيعة هو أمر شاق جدا ويفتقر إلى تفصيل وتحقيق، وهو لا يناسب المساحة المخصصة لـ(مقال) من عدة صفحات، بل ربما لا يمكن استيفائه في مجلد واحد من مئات الصفحات، من هنا مست الحاجة إلى الشروع في تحليل بعض المفاهيم التي تستعملها داعش في وصف الشيعة، والسعي إلى استخراج ما تبهمه تلك المفاهيم أو تسكت عنه (تاريخياً). وأهم تلك الاوصاف التي تجري كثيراً على لسان داعش هو لفظ (الروافض) وأيضا لفظ (الصفويين)، أما المصطلح الأول فإن الشيعة هم أول من أطلقه على انفسهم حينما رفضوا بيعة أبي بكر وعمر ثم أطلقه عليهم خصومهم، وقد أيد أئمة اهل البيت لقب (الرافضة) وأثبتوه لشيعتهم في عدة أحاديث مذكرورة في المصادر. وأما المصطلح الثاني فله تاريخ يرجعه البعض إلى زمن (الدولة الصفوية) الفارسية، ولا سيما عهد الشاه اسماعيل الصفوي، ولكن قد تكون لهذه التسمية جذر تاريخي أعمق، إذ كان عمر بن الخطاب هو أول من ميّز بين العرب والفرس في التعامل والحقوق والواجبات، وكان يكره الفرس انطلاقاً من نزعته القومية الضيقة، في تحدٍ واضح - على ما يبدو - لمقولة النبي صلى الله عليه وآله المشهورة: ((لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى))، وقد ورّث عمر محبيه هذه النزعة القومية فصاروا يعاملون الفرس انطلاقاً منها معاملة عنصرية متطرفة. وحينما انتصر المذهب الشيعي في إيران وانتشر انتشار واسعاً بفضل جهود الشاه اسماعيل الصفوي، ظهرت هذه النعرة بشكل سافر في العراق وخاصة في بغداد، وحصلت بسببها معارك طاحنة بين السنة والشيعة، فالسنة كانوا يستهدفون (الشيعة العرب) وينتقمون منهم رداً على ممارسات شاه عباس في تشييع (سنة الفرس)، وحينما علم الشاه اسماعيل بما يجري على شيعة العراق من فضائع وقتل وخاصة في بغداد قرر أن يغزو العراق، وحينما احتل جيشه بغداد تتبع الشاه مثيري الفتن من السنة العمرية الذين كانوا يهاجمون الشيعة ويعتدون عليهم فقتل علماءهم وهدم قبورهم وشتت شملهم وقطع دابر الفتنة (مؤقتا) حينذاك...
ومنه يظهر بأن الثأر الذي تزعم داعش أنها تطلبه من الشيعة (الذين تسميهم: الروافض والصفوية) هو الثار من جيش اسماعيل الصفوي (الشيعي) الذي أوقع في أسلافهم قتلاً ذريعاً حين غزا بغداد سنة 1508 م، ولكن ليس هذا هو كل شيء، فالسبب المذكور قد لا يكون مقنعاً، فالدواعش هم خليط من جنسيات مختلفة ولا يعنيهم كثيراً ما جرى على بغداد في ذلك العهد، ومن هنا ساغ لنا أن تبحث عن سبب آخر يضاف إلى السبب المتقدم، ولا نتلمسه في زمن بعيد من تاريخ الاسلام، بل هو ماثل في الأمس القريب حينما كان صدام يرفع شعارات ضد الفرس ويصفهم علناُ بالمجوس تارة بالصفويين تارة أخرى، وهو زعيم عربي سني طائفي كثير الاعتزاز بالقومية العربية على حساب معادته للفرس، وكأنه قد ورِث عن عمر بن الخطاب هذه النعرة بعد مضي ما يقارب الألف واربعمائة سنة، ولشدة حنقه على (الصفويين) قام بشن حرب ظالمة على إيران استمرت لثمان سنوات طوال عجاف، ولم يشن هذه الحرب إلا بعد أن تبوأ سدة الزعامة في ايران الإمام الخميني وهو من كبار مراجع الشيعة... وحينما قُتل صدام (عدو الصفوية) على يد الشيعة بعد تحرير العراق، توارى اتباعه (وخاصة الحرس الخاص والمخابرات وكبار قيادات البعث) عن الانظار وظلوا يتحينون الفرص ويعملون في السر من اجل استعادة الحكم الذي ذهبت سلطته التنفيذية إلى يد الشيعة، إلى أن تمكنوا وبدعم مباشر من اعداء الشيعة في المنطقة وفي العالم من تأسيس عصابات ارهابية تتعنون بعناوين دينية وانظم اليهم اعداء الشيعة العقائديون والتاريخيون المشار إليهم أعلاه. وبعبارة موجزة: إن داعش تطلب ثأرها من الشيعة بدم صدام، من حيث أنه يجسد ويرمز إلى تاريخ طويل من العداء ضد التشيع تمتد جذوره إلى عهد الدولة الصفوية، وتذكي أوار هذا العداء النعرة العصبية للقومية العربية التي أسسها عمر بن الخطاب.