كان وزير الدفاع الفيتنامي الجنرال جياب يُعطي للعالم انطباعا بأنه رجل مكفهر صعب المراس، فيما يخبرنا كاتب سيرته أن العسكري الذي لقّن الأمريكان أقسى دروس الهزيمة، كان مازحاً ساخراً يلجأ إلى الدعابة في أحلك الأوقات.. ويصر على ان يستقبل مراسلة مجلة تايم الأمريكية أثناء الحرب الفيتنامية بالقبلات. وذات مرة أبلغها وهو يضحك: " أننا لسنا أقوياء لإخراج نصف مليون جندي أميركي من البلاد، لكننا نريد كسر شوكة الحكومة الأميركية عبر استخدام قوتنا البشرية الصغيرة في مواجهة آلة حرب عملاقة.
في ذروة الدفاع عن النفس البشرية وحريتها، يتحول كل شيء إلى تصميم في مواجهة الطغيان. يصل بطل رواية الساعة الخامسة والعشرين إلى قريته لحضور جنازة شقيقه الذي مات تحت التعذيب، والشعور الوحيد الذي يهدَّه هو القهر والحاجة إلى العدل، إلى أن يذكِّره زميل له "بأن المشكلة الكبرى التي نواجهها أننا لا نُعطى سوى حياة واحدة".
عن هذه الحياة الواحدة يقول جياب في سيرته التي ترجم مقتطفات منها للعربية الراحل كامل الزهيري: " من يريد أن ينتصر في معركة الحياة عليه أن يدرس تاريخ وطنه جيدا.. أن يعرف كل شيء عنه، أن يحفظ آدابه وحكمه.، هذا عن الماضي. اما المستقبل شيء آخر تماما. إنه سباق وبقاء، مع الناجحين لا مع الخاملين. سباق نحو المراتب الأولى. والخاسر، من سينقرض في النهاية."
في عام 1995،، حدث لقاء فريد في هانوي، حيث جلس روبرت مكنمارا وزير الدفاع الأمريكي أثناء الحرب الفيتنامية في انتظار خصمه العنيد جياب. لقاء وصفته الواشنطن بوست بأنه حوار القرن بين قائد مهزوم وقائد منتصر.. وصل جياب بهيئته النحيلة وابتسامته التي لا تفارقه ليتذكر مع عدوه السابق كيف استطاع هذا البلد الصغير - فيتنام - أن يقف في وجه الهيمنة الأميركية.. فيما خصمه القديم ينظر إليه ويسأل نفسه. لماذا أحب الناس، في أميركا والعالم، الرجل النحيل صاحب النجمات الاربع.. ظل جياب ثابتا في مواقفه، متواضعا وغير متعجرف. لم ينس حكمة معلمه الصيني شوان لاي عندما قال يوما لنكسون " نحن دولة حديثة التكوين " فاعترض الأخير قائلا " لكنكم حضارة عمرها آلاف السنين " رد معلم جياب " صحيح. لكن هذا يفيد في شحن همم الناس في الداخل، لكن لا معنى له في محادثات تحدد مصير البلاد "
كان مراسلو الصحف في سايغون يرسلون التقارير التي تؤكد أن مقاتلي الفيتكونغ قد أبيدوا وأحرقت غاباتهم وبيوتهم. ثم بعد أيام يظهر جياب مبتسما يحيط به جنوده وهو أقوى من قبل، يقول لإحدى المراسلات مداعباً:"لم يعد هناك شيء اسمه الدفاع عن الوطن، لأن كلاً منا صار اسمه فيتنام ".
ولأن بناء البلد بعد الحرب يحتاج إلى قادة جدد، فقد تم عزل جياب، مع كثيرين غيره، ولم يبد اعتراضا..فصاحب النجمات الأربع ظل مقتنعا أن لكل مرحلة رجالها.. ليقدم للعالم صورة أخرى للزعامات في العالم، فبينما يلقي بعض القادة عندنا الخطب الرنانة، أعطى جياب لشعبه، حرية لم يعرفها.. وقطع لهم عهدا.. لم يكذب عليهم ولم يركب على أكتافهم.. لم ينس يوما أنه فقد والده بسبب الظلم والاضطهاد، وبسبب أصحاب البدلات العسكرية الذين كانوا يحكمون فيتنام رجلا بعد آخر، وبينما يصر قادتنا الأمنيون على الاستمرار في نشر الخراب حتى آخر ضحية، مشى جياب حتى اليوم الأخير من حياته مؤمنا بالتداول السلمي للسلطة رافضا أن يحتكر المنصب، وأن يتحول إلى فريق ركن مثل قاسم عطا وعبود كنبر وزهير الأعرجي، فقد أيقن أن الرتبة العسكرية مثل إشارة المرور لا يمكن تجاوزها، ضحك يوماً حين قال له الرئيس الفيتنامي تروانغ سانغ: "إن البلاد تريد أن تكرمك وترى أنك تستحق أكبر وأعظم الرتب العسكرية.. نظر الرجل العجوز والبسمة تملأ وجهه هامساً في أذن الرئيس: هل تريدني في آخر أيام عمري، أجتاز الإشارة الحمراء؟!