ذلك الوطن ، و تلك البلدان التي تتخذ من الدين ستاراً لتمرير مآربها ، حيث ملئت الأرض جثثاً وقتلى في السجون والشوارع كما في إيران أيام الخميني ، حيث أنّ أحد الشعارات الدينية التي كانت ترفع ايام الخميني في ايران هي : ( لو سمح للكافر بالإستمرار في الحياة لأصبحت معاناته النفسية أسوأ كثيراً ، أما لو قتل المرءُ الكافرَ فيكون قد حال دون ارتكابه مزيد من الخطايا وبهذا يكون الموت نعمةً له ، ولذلك كانت الإعدامات في الشوارع بواسطة الرافعات ...ماريا نعمت رواية ... سجينة طهران).
ثم تبدأ رحلة التفكير بالخروج ومغادرة الوطن والحديث عنها بين الأصدقاء ، أنها لغة الأسرار في تلك الأيام الغادرة ، لخوفهم من بطش النظام ، فيرى مبدر ليس له غير البيت : ( تخطو وليس لك غير البيت ملاذاً ؛ هو الوكر العاطر بأرائج الأمان ولكن هل يأمن الطير في عش تترصده أحقاد الكواسر) . فيتوجب عليه وعلى اصدقائه الكتمان ، (الخوف هو أفظع السجون على الإطلاق ولذلك إذا كتبنا مخاوفنا قتلناها .. مارينا نعمت... من رواية سجينة طهران).
مبدر يتخذ القرار في الهروب من العراق ويغادر الى ليبيا نهاية السبعينيات ، على أمل اللقاء بصديقه عبد الرحمن الذي سبقه هناك ، ثم اليأس من اللقاء به لكونه غادر الى إنكلترا وهذه أول بشائر اليأس وتضاعف الغربة عليه . يصل الى ليبيا حيث ( زنقة اليهود ) وهذه التي تذكرنا بخطاب الأرعن القذافي حين يقول سنحرر ليبيا ، زنقة زنقة ، بيت بيت ، شبر ، شبر ، لكنه مات بعارهِ قبل أن يحرر نفسه .
فمن فداحة اليأس الأول لغياب عبد الرحمن وإرهاصاته التي دخلت عنوة الى صلب الهم ، بدأ مبدر يزيح عنه تعليق النفس بالأماني لنقرأ ما يقول:
( هلمَّ أيها المخلوق المتطيّر من ربقةِ القدر ؛ المهووس بشدَّة الضجر. يا ناقم ، يا حالم ! العالم لا يتغير بالأماني ؛ ولا المُرادُ هيِّنٌ ويسير .".. أدخلُ كمن يبغي اكتشافَ وجودٍ لا مُكتشف ، يا حالم العالم لا يتغير بالأماني).
في ليبيا وحيرة الغريب في المنفى والضياع والخوف من المبهم ، يتعرف على شخصٍ طيب ( مبارك) ثم على( بشرى) النادلة في مقهى... بشرى تلك التي ترمي عليه ضباباً آخراً ، فهوَ ليس مِمَّن يتخلّون عن ذاكرتهم بسهولة تذكر ، فهناك نجاة في السماوة والحلم المنتظر وكل ما أعطي من تعهدات لنفسه في أن لا ينساها ، بل يظل ذلك الحبيب الوفي وتلك هي طامة المثقف وضريبته التي لابد أن يدفعها . بشرى تفكر به كزوج ، فيجد نفسه لأولَ مرّةٍ نائياً عن ذكرى الأهل ، واستحضار صورة الحبيبة نجاة ، لأول مرّةٍ يشعر أنه منسلخ عن غمامةِ هموم ؛ وداخل حلبة مفاجآت.
بشرى تحدّثه عن اختها الهاربة مع اليوناني حباً وتضحية , يبدو أنّ الكل في أوطان العرب ليس لهم لغة سوى لغة الهروب من جحيم الحكام ، المغرب هي الأخرى بلد الفقر المدقع وكثرة الدعارة ، بحيث في يوم قالوا للملك( محمد السادس) المسمى ( أمير المؤمنين ) أنّ الآيدز قد تفشى في المغرب فقال لهم ليس من مشكلة ( ادعموا الواقي الذكري ) ، هذا كل ما استطاع أن يفعله أمير المؤمنين .
في ليبيا يكون لمبدر ثلاثةُ صحابٍ : مبارك ، وبشرى ، والشِّعر .. وهنالك في البعد النائي كانت الأمُّ ، ونجاةُ ، والذكرى . يبقى مع بشرى سبع سنوات متواصلة ، أزاحت الكثير من التفكير القاتل لديه , المرأة هي مفتاح الراحة والأمان في الاغتراب ، حين يمرض ويصاب بالحمى ، بشرى تتحدى كل التقاليد الليبية المحافظة وتجتاز الأزقة الظلماء في ليلٍ حالك ، وتعوّده كي تداريه وتخفف عنه آلام الوطن النائي . وكل غريب له سلواه في السياحة وارتياد المتاحف والمناطق التأريخية وخصوصا الشاعر والكاتب حيث يصيبه الذهول لكل شيء غريب عنه وعن ما أعتادته عيناه , فيقول لبشرى وهو في متحف ليبي :
(المتحف دفترٌ حيوي وصفحات مصغّرة لمجتمعات كانت هنا، نحنُ هؤلاء قبل آلاف أو مئات أو عشرات الأعوام . مقذوفون من بؤرة وجودهم السحيق . هم جذورنا ونحن الأغصان) . الروائي زيد هنا يكرر لنا أنّ الذاكرة لدى مبدر هي التي جعلته يفيض بما لديه عن جذور الإنسان ، أولئك أسلافنا والقادمون أحفادنا وهكذا تبقى الذكرى جوالة بين هذه السلسلة المترابطة الممتدة الى السنوات السحيقة والماضية صوب الأبدية ، مثلما ذاكرته التي تتأرجح بين حبٍ تركهُ هناك في العراق ( نجاة ) وحب فرضته الغربة والاشتياق الى حضن النساء الدافئ والمتمثل بـ( بشرى).
فجأة تغيب بشرى والى الأبد بعد إن غرست في قلبه وفي جسده ندوب لا يمكن أن تمحى ، لقاء جمعهم اختصر كل معاني الاشتياق واللوعة والحرمان والحب الذي لم يُكتب له الاستمرار لدواعي كثيرة ، المرأة إذا أحبت بصدق لابد لها أن تؤرخ هذا الحب عن طريق الوصال الحقيقي والتماس الجسدي والتوحيد على سرير ناعم يفيض بالحنان ، ثم فليأتي ما يأتي ، بشرى تجعله يتذوق عسيلتها في تلك الليلية الأخيرة ، كي تغرس في قلبها سكين حبه الذي سوف يظل ماثلا أمامها كلما تتذكر قبلاته وتمسيده فوق الجسد الناعم . في الدنمارك إّذا ما التقى رجل وامرأة وقال لها الرجل : أتذكرينني قبل عشرين عام كنت قد أحببتك ذات مرة ، المرأة تقول له ، وهل سمحَ القدرُ لنا في أن ننام سوية في فراشٍ واحدٍ ونضاجع بعضنا ، فإذا قال لها كلا ، تقول هي بدورها : آسفة إذن لم أستطع تذكرك ، فتصور ايها القارئ ما هو دور الجنس في حمل الذاكرة سنين وسنين . ولذلك ظلّ مبدر داغر يحملُ تأريخ بشرى مادام حياً :
(بشرى إذاً نيزكٌ مرَّ في سماء روحِكَ خطفاً ثم انطفأ . لكأنَّ الأيام ترينا غوايتَها تجسيداً على صحائف العمر).
غابت بشرى !
وبالغياب أُغلِقَ كتابُ حبٍّ كان حلماً :
نهض فانتشى ..
تمايس فانكسر ..
بزُغَ فانطفأ ..
مرَّ وانتهى .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
*الحصار .. الكابوس الجاثم والصدور الهشّة........
بين هذه التصدعات يتسلم مبدر رسالة من أمه :
" يا ولدي : نحن في أشد الظروف فقراً ، وأتعسها مقدرةً . المال ؛ العملة عندنا لا قيمة لها فهي تنضب سريعاً كالدخان . الحصار استنزف المدخّرات وأطاح بالماثل من الأشياء : أثاثاً وعفشاً وعقارا....... الكثيرات من البنات اليافعات انجررنَ إلى دروب الخطيئة لا لشيء إلاّ للتواصل في حياةٍ أكثر ما يتمنّينَ فيها أكلَ لقمةٍ تُطيل الحياة ليومٍ آخر ... ابعث لنا ما تقدر عليه من مال ؛ فنحنُ ننهار).
انا ، كاتب هذا المقال ، في يوم أثيمٍ كنت حينها أعمل مهندساً ولدي سيارة تكسي أعمل بها بعد الدوام الرسمي كي أستطيع مجاراة الحياة الصعبة أنذاك لعدم كفاية الراتب في متطلبات الأسرة . أغوتني فتاة في عمر الزهور وأنا أوصلها الى بيتها ، حينها كنت شاباً ينطحُ الحائط فينز ماءاً وخرير , ركنتُ السيارة بجانب بيتها ، ودخلت ... ويا ليتني لم أضع قدماً على عتبتهم ، البيت ليس له باب ،بل مجرد خردة قماش ، الجلوس أرضاً على سجادةٍ أكل الدهر عليها وضحك . جلستُ حتى جاءتني والدتها الوقور ، فصعقتُ أيما صاعقة ، وهي الأخرى خرّت من الحياء والبكاء المفاجئ ، يا للهول !! .. كانت جارتنا في الزقاق البسيط . كانت ترفل بالشرف والعفة والكرامة وكنت في ذلك الوقت أناديها بخالتي تقديساً وحبا لها ، فاتضح لي أنّ البنت كانت( فلانة) أيام الصغر الذي تناهى لي وجعل الغشاوة على عينيّ ولهذا لم أعرفها ، خرجتُ سريعا تاركا لهم مبلغَ كل ما عملته من أجرٍ في ذلك اليوم وأكثر ، دون أن آخذ وطري ، غير أني لعنتُ صدام أمامهنّ دون خوف أو تردد .
تلك الظروف القسرية على عائلته والشوق الناري الذي لا ينطفئ للحبيب الأول ( نجاة) يجد مبدر داغر نفسه مرغماً بالعودة الى العراق وفي ظل الأجرام الصدامي وفي نفسه الكثير من الوساوس ، خوفا من رجال الأمن ، تفكيره بمصير العائلة ، ونجاة التي لم يسمع عنها خبرا يُذكر ، بعد إن كانت تتواصل معه بالرسائل والخطابات الى ليبيا لكنها في السنوات الأخيرة انقطعت ولم يعد هناك من رد ؛ وحتى امه التي كبرت وغاب عنها ذاك الألق و التي كانت تخبره عنها لم تبادر في الإفصاح عنها بشيء يسر الروح ، نجاة أصبحت في عالم الغياب وقد طواها الدهر دون معرفة مكانها وما حل بها ، ها هو اليوم عائد الى العراق (ويحشر نفسه مع العائدين ليدخلوا من فمِ النفق إلى جوفه العتيم) ، مرددا:
(مع رامبو في مركبه السكران " وهكذا ؛ فأنا مركب ضائع تحت شعر الخلجان الصغيرة ، مقذوفٌ بالإعصار في أثير لا طير فيه) .
يصل مدينته السماوة بعد غيابٍ دام عشرين عاماً ويلتقي بفرحٍ يشوبه القلق والحزن الدفين بالكثير من أهله وناسه وخصوصاً اخته التي تقول له (أخطأتَ كثيراً يا أخي بعودتك !) ، لأنّ أغلب الشباب اليوم هربت من هذا الجحيم الذي نحن فيه ومن جيش القدس الذي اعدّه عريان ( صدام) ليحارب فيه جيوش العالم ، الرجال تهرب من العراق وأنت راجع اليه ، هكذا سمع أول تنغيصة في عراق الظلام الذي دخله توا .يلتقي بصديق عمره كمال فيجده ليس بذاك الكمال الذي فارقه ؛ ليس بتلك الحيوية وحب الفن، طحنته الأيام ولم يعد غير شتات . يسأله عن( نجاة ) فيجيب حسير النفس ، ربما هي في عمان الآن تنسحق مع آلاف النساء العراقيات ممن توارينَ هناك هربا من الجوع والحصار . لكنّ الجواب الذي أنهى كل خيوط الأمل الماثل في أنْ يعاد حبه الذي طار مع الريح ولم يعد .... حين يكمل كمال حديثه القاتل :
(أنّ عربة من النوع الذي يستقلّها المسؤولون الكبار كانت تأتي فتأخذها إلى العاصمة ، وتغيب ولم يعد أحد يبصرها.... لقد انتظرَتكَ طويلاً ومن المحتمل أن ظنها خاب في مسألة عودتك ؛ ظنّتها مستحيلة لن تتحقق . ومع هذا لا تجعلها تضيع ، ابحث عنها . ليس لنجاة من بديل).
ثم يعرف أيضا عن مصير شهاب والد (نجاة) بأنه كان يقص على زوجته (انيسة )وهو في سكرات الموت وصحوات الضمير بانه شارك في قتل العديد من الناس الوطنيين وقبلها في عام 1963 ، كان يقول لها ..(علقم ..علقم .. مرارة . أشعر كما لو أنَّ ملحاً يُزرَق في فمي، ما هذا ، يا أنيسة ؟.. لماذا أنا هكذا ؟!. هل أنا مريض ؟ "، ثم يموت شهاب من غير أنْ يدرك مصير نجاة ونهاية الجناة ! .. مات تاركاً المصير فضفاضاً بلا نهاية).
كان رجاءُ الناس من الله في القضاء على عريان لا حدود له ، لأنها عجزت من القضاء على عليه ، عريان هو صدام حسين الذي تعرى وأصبح مكشوفاً في أيامه الأخيرة ، تعرّى للإمبريالية لكي يرد الموت عن نفسه ، مثلما تعرّى قبله عمرُ بن العاص أمام علي . ترجو الناس باريها وما من مجيب فتبدأ بالتشكيك وهم يرددون ( الله قادر على كل شئ الا على عريان فهو عاجز وخائف ومدحور) ، وهذه الرؤيا حول الشعوب ويأسها قد وصفها محمد الماغوط بتعبير مذهل (انني اعدُ ملفاً ضخما عن العذاب البشري لأرفعه الى الله فور توقيعه بشفاه الجياع واهداب المنتظرين ولكن يا أيها التعساء جل ما أخشاه انْ يكون الله اميّا) . ثم يختصر مبدر مما رآه عن حالة البلد :( الشباب من أهل المدينة لا وجود لهم ، ولم ألمح إلا القليل . علمتُ أنهّم أمّا مُجنَّدون في الجيش أو هاربون يقبعون في البيوت ، لقد هرب الكثيرون وصاروا يجدون الأمان هناك ولو على حساب سوء الحال .. شاهدت أعداداً هائلة منهم في عمّان) . المخرج الإيطالي الشهير (فدريكو فلليني) كان يقول : ( السير في الشوارع كان خطرا على أي شاب إيطالي ليس في جيش موسوليني) ، حيث يروي كيف أنه كان سجيناً في بيت خطيبته ولم يلتحق في الجيش وفي يوم خرج مغامراً فإذا بنقطة تفتيش تستوقفه فما كان عليه سوى أنْ يتدبر حيلة ، حيث ركض الى امرأة عجوز كانت تتوقف جانبا وأمطرها بالقبلات على أنها أمه ، العجوز ذهلت ، الجنود تركوه ريثما ينتهي لكنهم تناسوه بعد برهة استطاع بها الهرب من أقرب زقاق .
مقالات اخرى للكاتب