بعد شيوع ثقافة الاستسهال و الاكتفاء بالنزر من المعرفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك , الواتساب , اليوتيوب , و مشتقاتها , حفزت هذه التكلونجيا الجديدة العقل المحبط و المقيد, على هامش من التفكير , فبزغ أمام مجتمعاتنا ضوء خافت يرشدها الى عناوين و مسارات لم يطأها عقل بشري شرق اوسطي من قبل , فتفجرت بعض هذه المجتمعات و انفصلت بتفكيرها و إيماناتها عن المركزية الاولية للإيمان الاول و خالف هذا الرهط المتشطر نظرية المفكر ابراهيم البليهي ( العقل يحتله الاسبق إليه ) فغادر البعض منطقة الاحتلال نحو جهة الإلحاد , هاجراً مرتكزاته و إيماناته الاولية و رحل الى عالم من المفترض ان يوفر للاشخاص سمواً و راحة و طمأنينة وانفتاحاً عقلياً و وعياً منصهراً بثقافة عالية أقصد به .. الإلحاد . و الإلحاد يقسم الى نوعين كلي وهو نفي وجود الخالق و نسبي وهو عدم الاعتقاد بوجود الخالق لعدم وجود ادلة عقلية او علمية عليه , لكن هناك بعض الاعتراضات على التوصيف النسبي (غير المقتنع بوجود خالق ) هل هو ملحد أم انه باحث لم يستطع إيجاد أدله .يعلل احد كبار الفلاسفة هذا القول , فيقول ان الطفل لا يعتقد بوجود إله ومع ذلك فهو ليس ملحداً , من جانبه طور جورج سمث نظرية الإلحاد الكلي فقال: الملحد يعتبر فكرة الإله غير منطقية و بعيدة عن الواقع ومع ذلك مستعد للحوار.
يتعرض سمث الى نقطة جوهرية جداً في إمكانيات الملحد ولعلني حاولت الاشارة لها من قبل بشكل عام دون التخصيص او الاشارة الى ايدلوجيا بذاتها فيقول :
الملحد الحقيقي يجب ان يكون غرضه الرئيسي هو الموضوعية و البحث العلمي و ليس التشكيك او مهاجمة المعتقدات الاخرى. ولو سار الملحدون على نهج سمث لما وجدنا هذا الهذيان من إدعاء و زعم فارغ للعلم و المعرفة .
سار البعض على نظرية الاستقطاب و التغيير نحو الاحسن ,شخص أغرى شخصاً و مجموعة أوحت الى اخرى و تحول كبير وعميق نحو هذا التغيير الجديد , فتهافتت الاصوات المرددة لبعض أقوال فلاسفة الغرب الكبار و طروحاتهم العظيمة و كأن هذه الاقوال المختزلة من كتب و تجارب المفكرين هي هوية الاشخاص الجدد , فما عليك إلا ان تحفظ اسماء بعض الفلاسفة و مقولتين او اكثر لهما, ثم رددها و انشرها بمواقع التواصل لتكون بعد ذلك مثقفاً عصامياً و واعياً تقدمياً . وحسب معاينتي للواقع و مطالعتي لما ينشره بعض المتحولين من الايمان المطلق الى الإلحاد المطلق , ان طريقة و اسلوب و دلالة البرهان لأسباب الانعتاق لم تكن مستوفية شروط المعرفة الحقيقية ولم يمارس العقل عند بعض الملحدين عملية البحث و الموازنة بين الاشياء , ولم يعانِ او يكدح ذلك المهاجر الى فكرة اخرى , لكي يوظب خلاياه الذهنية في حقيبة المعرفة فيكون مستعداً الى ذلك الرحيل , الذي يستدعي التأهب لمتاعب سفر شاق . هو رحيل جماعات حانقة, استطيع ان اسميها ردة فعل غير متكافئة لفعل يحتاج ان يواجه بفعل ذاتي و يقوّض بمعرفة و عقل .
بعث لي احد الاشخاص رسالة عبر الفيسبوك , عرّف بنفسه على انه مُلحد و تفاخر برسالته تلك من انه تربطه علاقة مع كبار الملحدين و المفكرين , و نفش كل ريشاته بكلام أجده أقرب الى الأمية منه الى الفلسفة او المعرفة التي يدعيها , بعد رسائل متبادلة بيننا ولا أنكر أني مارست عليه ضغط المعرفة لأستبيان جوهر الشخص, بأسئلة محرجة أقرب الى الابستملوجيا منها الى الايدلوجيا , حاولت قدر المستطاع ان أفهم الرجل جيداً و بعدها أُفهمه من هو وما مستواه الثقافي و العلمي, فتعذرت عليه الاجابة لكنه أجابني بعد حين و بالصوت هذه المرّة , فحوى إجابته كانت سب و لعن لي و لأهلي ! ولا إشكال في ذلك, قدرنا ان نكابد مع جماعات تستهوي السير كالقطعان و لا ترغب بالتغيير الحقيقي رغم انها مولعة بالتمظهر الخارجي , و الادعاء العلمي الفارغ , ولطالما نالنا من التعسف ومن اشخاص يدعون القرب من الله و انهم أوصياءه في خلقه و لا فرق عندي بين جاهل مدع العلم او الالحاد او الدين , فالجميع في سلة الجهل.
الاشكالية التي تواجه الإلحاد في مجتمعنا العربي :
1-أنها ظاهرة تشبه الطيش بعيدة عن الاعتقاد المعرفي .2-تحول من منطقة جهل و فراغ ذهني الى منطقة جهل و فراغ ذهني اخرى.3-عدم الاكتراث بالبحث و المطالعة الجادة.4-غياب السؤال الفلسفي من منظومة المعرفة و التشبث بمقولات سطحية.يجب ان أتوقف قليلاً عند الاشكالية الثالثة , فهذه معضلة يمر بها مجتمعنا و كأننا نتوارثها بالفطرة , بعض الذين يزعمون المعرفة من مثقفين و متعلمين و رجال دين و ملحدين, يسوِّقون أنفسهم بطريقة عالية و مثالية , لكن الحقيقة تضفي الى ان اغلب هؤلاء المدعين يمارسون الكلام الانشائي فقط , فهم يشبهون الحكواتي بنظمه , إبتعاد اي شخص عن المطالعة و البحث و إثارة السؤال مؤشر نكوص , وما أكثر الذين نكصوا فهجروا الكتاب و تمسكوا بغلافه .
أعود الى الذين انعتقوا من ايمانات البيئة الى ايمانات اخرى ( الملحدون)
فأقول ليس الاشكال في التغيير بقدر ما هو إشكال في كيفية التغيير, انتم تحولتم من واقع لم تمارسوا فيه عناء البحث و جدية السؤال ولم تكونوا تستطيعون فيه فك شفرة الاجوبة المقدمة فيما اذا وجِد ذلك السؤال. التحول من منطقة محظورة و ملغومة يحتاج الى أدوات إستكشافية عالية الدقة و متناهية الجودة .
الخوض في سفر الفلاسفة ليس سفرة ترفيهية يزعمها الشخص ليبرهن على سموه و نضجه و وعيه , الزعم بالمعرفة سهل لكن اثبات المعرفة صعب , زعم العلم سهل لكن تطبيقه صعب , زعم التفوق سهل لكن مرتبة التفوق صعبة , زعم الاشياء سهل لكن فعل الاشياء صعب .
السؤال المهم , ما الذي حرض عقل مجتمعاتنا لكي تغادر إيماناتها الاولية , أليس رجال الدين ونصوص الدين السبب الاساس في كل هذا التردي الحاصل ؟لماذا يهرب الناس من الدين ؟
هل أجوبة رجال الدين تنسجم مع العقل العلمي و الثقافي ؟
الحياة ثابتة ام متغيرة اذا كانت متغيرة كيف نريد الحكم عليها بقوانين ثابتة كما يفعل القائمون على الدين؟
هل يستطيع رجل الدين الاقلاع عن خطابه الماضيوي التجهيلي المتحامل الى خطاب فيه حداثة و افاق نحو مشروع إنساني ؟
هل تستطيع المؤسسة الدينية التخلي عن منهجها الوعظي او التبريري لتنشئ خطاباً يليق بالمرحلة ؟
ألا يعتقد الواعون ان جزع الشباب و هروعهم نحو الايدلوجيات المختلفة هو بسبب إفلاس الخطاب الديني المستحكم على رقاب الناس ؟ثنائية السياسة و الدين ألم تكن دائماً بالضد من مشروع الانسان ؟
أسئلة كثيرة بحاجة الى إجابات منطقية معرفية بعيدة عن التبرير و التجهيل , اسئلة يمكن من خلالها الاشارة الى خلل تجاهله العقل المستقيل ليبدأ عقل متحرك اخر بمعالجته .
مقالات اخرى للكاتب