الموصل مدينة حزينة وكئيبة وأسيرة ومحتلة ومختطفة، اهلها بين نازح ومهاجر في اقليم كوردستان او في مدن اخرى في العالم، او محاصر بين اسوار المدينة التي تحولت الى سجن ومعتقل كبير لا يستطيع ان يغادره احد الا بمغامرة اشبه بمغامرات جيمس بوند او الافلام الهندية التي تتضمن مشاهدها كل ما هو غير متوقع او غير معقول في عالم الواقع والحياة.
حال مدينة الموصل واهلها يشبه حال الطائرة الالمانية المنكوبة التي اعلن عنها برايس روبين المدعي العام في مدينة مرسيليا الفرنسية من خلال التحقيقات الأولية في أسباب تحطمها فوق جبال الألب الفرنسية والتي تبين أن مساعد الطيار تعمد إسقاط الطائرة ، استنادا إلى معلومات عثر عليها من جهاز التسجيل في الصندوق الأسود الخاص بالطائرة، وإن مساعد الطيار كان وحيدا في مقصورة القيادة حين هوت الطائرة، وإنه جعلها تهوي عمدا بينما كان قائد الطائرة محجوزا خارج المقصورة، وإن التسجيلات الصوتية التي عثر عليها أفادت أن المقصورة من الداخل كانت صامتة تماما أثناء الهبوط، بينما سمع طرق الطيار على الباب والذي قام بمحاولات مستميتة للعودة إلى مقصورة القيادة دون جدوى، وهو حال يشابه حال الموصل واهلها الذين غادروا مدينتهم وفقدوا القيادة والسيطرة فيها وجاء اليها الاغراب من كل جنس ولون واصبحوا هم الحكام المسيطرون.
مدينة الموصل كانت على امتداد تاريخها مدينة زاهية بتعدد الوانها وربيعها الذي اقترنت به فحملت اسم أم الربيعين لانها جمعت بين امتداد الربيع الى ما يقارب الفصلين وتعدد القوميات والاديان والمذاهب والاقوام التي عاشت فيها، وكان لكل منهم بصمة وحضور في محلاتها واسواقها وجوامعها وكنائسها ومعابدها، وكانت قوية تهفو اليها نفوس وقلوب الآخرين الذين ما يشربوا من ماء دجلتها الا صاروا من اهلها يجمعهم الحب وتربطهم روابط الجوار والتسامح والقبول والرضى.
لقد تغير حال الموصل كما تغير حال الطائرة وآل حالهما الى مصير الحالة المنكوبة التي جعلها مدينة غير قابلة للحياة، هجرها اهلها واستوطن فيها الاغراب من كل جنس ولون ساعدهم في ذلك من ساعدهم من ال… بلغة الموصليين ولهجتهم الموصلية، فغابت عن المدينة ومنذ اكثر من عقدين معظم صور المدنية والتحضر وزحف اليها العسكريون والمتطوعون من شتى القرى والارياف وحصلوا على افضل القطع السكنية وصبغوا بل احتلوا المدينة ومراكزها وامتدت باحياء ومحلات جديدة للمستوطنين الجدد الذين لا يحملون للموصل واهلها غير الرغبة بالسلطة والاستحواذ على كل ما هو جميل وآسر في هذه المدينة التي لم تكن يوما مدينة خاصة بقومية او دين او مذهب معين، لكنهم وبدافع التعريب والاستحواذ غيروا كل شئ وحولوها الى مدينة مغلقة وصلت الى درجة انه لا يحق فيها للكوردي امتلاك قطعة ارض او تسجيل سيارة بيكب باسمه مما حول سكانها الاصليين الى غرباء، واحتلها الغرباء واصبحوا هم اصحاب الدار.
ذلك الغيم والظلم جاء بهذه العواصف والظلم والظلام والتي جائت بالارهاب الذي اتخذ اسماء واهداف عديدة تلون واتسع بعد عام 2003 الى الحد الذي جعله القوى الحاكمة والمسيطرة امام قوى شكلية ارتضت لنفسها ان تكون في واجهة المشهد وهي في الاصل مخترقة ومسيطر عليها، وكان آخر المآل يوم التاسع من حزيران عام 2014 عندما سقطت المدينة وتم احتلالها وكان من أمرها ما هو حاضر ومعروف حيث لم يسلم من واقع الحال حتى الشجر والحجر والجوامع والكنائس والمكتبات وكل ما هو جميل وحي بحيث حولها الى مدينة اشباح ومن مدن القرون الوسطى .
لو كان هناك صندوق اسود يضم التسجيلات والمحادثات والاتفاقات التي جرت في هذه المدينة لظهرت الحقيقة التي ما تزال لجنة مجلس النواب العراقي تبحث عنها في اسباب سقوط الموصل رغم انها لم ولن تصل الى ما توصل اليه المحققون في حادثة الطائرة المنكوبة رغم ان الفاعل والضحايا في الطائرة جميعهم ماتوا وانتهوا الى اشلاء ورماد، ومع هذا توصلوا للحقيقة واعلنوها بكل شجاعة وصراحة ووضوح مع ما يترب على ذلك من تعويضات هائلة ودعوات الى تغيير نظام القيادة في الطائرة وتحريرها من سلطة قائد او شخص واحد من خلال وجوب ان يكون اكثر من شخص واحد في قمرة القيادة مهما كانت الظروف والاحوال من اجل تفادي ما يخشى حدوثه في المستقبل ، في حين ان اغلب واكثر الضحايا والمتهمين في قضية المدينة المنكوبة الموصل أحياء، والكثير منهم يُغيرون الوانهم وجلودهم وخطاباتهم حسبما تقتضي المصلحة وبازار السياسة النتن، والذي حولهم في غفلة من الزمن او هفوة من وعي الناس وتزوير ارادتهم الى قادة ومتحدثين رسميين باسم هذه المدينة.
مدينة الموصل ستعود الى اهلها بعد ان يستفيدوا من دروس المحنة والنكبة التي حلت بهم، وبعد ان يعود التنوع في الالوان والاطياف الى سابق عهده بحيث يختفي التفرد والتسلط من اي كان ويعود اهلها الطيبين الى سابق حياتهم في محلات واحياء ..سوق النبي يونس والجوسق والمشاهدة وخزرج والزنجيلي والفيصلية والزهور وغيرها من البيوتات والمناطق مؤمنين بالعيش المشترك والتسامح وقبول الآخر من غير عُقد او شروط او استعلاء..فالارض والخير والوطن يتسع للجميع.
مقالات اخرى للكاتب