ليس جديدا ما يحاك ضد العراق ولاغريبا ما يدور على العراقيين , التركة ثقيلة على شعب لا يستطيع ان يخرج من عنق الظلمة الى النور جراء تلك الذاكرة المتوارثة القاهرة والمتعصبة والمليئة باشد انواع الاذى وهو زخرف القول الذي تتنابز به زعامات لها القدرة على استمالة هواجس العاطفة بدلا من العقول لتعطيل التطهير وتأخير التعمير وتعويق الاصلاح وتبقيه في دوامة السذاجة والجهل بكلمات مزينة وعبارات منمقة واسطر مزركشة في خطابات مترفة ليصبح قولهم في احسن صورة أُخرجت فينجذب الى قولهم الاتباع ويغتر بهم الجهلاء وينقاد اليهم اصحاب العقول الساذجة الذين لا يفهمون الحقائق ولا يفقهون المعاني ولا يحسنون المرامي فيميلون إليهم بما تراكمت على عقولهم من قيود وحواجز وحدود لاطاقة لهم بان يتعدوها لأنها قد اصبحت عقيدة راسخة وصفة لازمة لا يمكن النفوذ من اقطابها الى فضاء المنطق والعقلانية ليحققوا في ذاكرة الموروث وهم في زمن اليوم وليس في زمن الامس فلا يغترون بتلك العبارات بعد ذلك ولا تجذبهم تلك الكلمات والشعارات الماكرة بل ينصرفون إلى المعرفة والحقيقة وينظرون إلى علميتها وانتاجها ، فإن كانت حقًّا قبلوها وانقادوا لها وان كانت تلك العبارات قد زُخرفت ردّوها على من تحدث بها كائنا من كان حتى وأن لبست اثواباً ارق من الحرير .
السقوط الاذل لعرش الشمولية والطاغوت الاوحد كشف المستور وفتح الستار عن عروش عديدة قد امتلأ بها المسرح السياسي العراقي وعلى كل عرش زعامة ولكل منها اتباع وكتّاب ونواعق وخدم وحشم ومرجعيات عديدة واختلفت معها المسميات التي تتبع الزعامة من الكيانات التي لانعرف حدودا لها حزب , تيار , تحالف , قائمة , منظمة , هيئة , قومية مما لايعد ولا يحصى والقادم قد يكون اكثر فرقة وعدد والاغرب والادهى ان انتاج الزعامات اخذ ينتشر بسرعة لتعاظم الطموح والسلطة وما تقدمه من مغانم المال والثروة , ولا يهم فعلا ان تفرق الزعماء او اجتمعوا فليس للتابعون اي فائدة ترتجى فقد ارتقت مفردة الزعيم واصبحت هي الغاية والمنتهى وهي التي تبرر الوسيلة مهما كانت غاياتها وهي ذلك الشعور الغامر بالملك والعظمة والرفعة وقد يرتقي بعضهم ليكون قاب قوسين او ادنى , والبعض الاخر يؤمن بانها ارث حتى وان كان على غير علم او فقه او رشدا انما وجدناهم هكذا , وقد استطاع البعض ان يتمرد على اسياده وان يتشظى فمال الى من هو اعلى سطوة ورفعة ليصبح زعيما مخالفا وندا , ومنهم من يتربص بسيده لياخذ مكانه حتى وان باع كل ما يعتقد به ليعتلي عرشا ما دامَ لغيره ولن يبقى , لا شك انها معضلة كبرى ان يربط مصير الشعب والوطن بمفهوم الزعامة وبخطابها المزخرف الذي لا ينتج غير التيه الفكري والتفكك المجتمعي لنصبح قطعان تمشي كل منها براعها فأن اوقفها وقفت وأن سار بها سارت مسلوبة الارادة والفكر لا تعرف غير الهتاف والتبعية وان هذا الا استعباد لا مناص منه ولا خلاص الا بالتنوير والارادة الحرة .
الزعامة كمفهوم ومن جانب المنطق والتطبيق ليس لها أي توصيف وظيفي او اداري وليس لها اي مكانة في الهيكل التنظيمي لكيان الدولة وليس هناك اي مترادف لها لا في دستور العراق ولا في اي دستور في العالم وهي حالة شاذة في المجتمعات الحضرية التي يعمل فيها الجميع لتحقيق المنجزات على المسارات المختلفة فما هي فعلاً صفة عمل الزعيم وما هي واقعية انتاجه وهل يخضع الى معايير معينة ام هو فوق كل اعتبار حتى وان كان ذلك الاعتبار هي الدولة بحد ذاتها , والزعامة صفة غير عاملة تعتاش على حقوق الشعب وتستنفذ ثرواته وتقبع عالة عليه لكثرة المتطلبات والمستلزمات والاكسسوارات التي تتطلبها اولويات الزعامة , الحمايات والقاعات والرايات والمواكب وغيرها من التي يعلمها الله والزعيم ونحن لا نعلمها , الارث العربي والاسلامي عامة والعراقي خاصة قد أتخم بالزعامة منذ عهود خلت جرتنا الى حروب ليس لنا فيه ناقة ولا جمل والى يومنا هذا والسبب ان هناك من ينقاد ومن يتبع ولولا الاتباع لما كان هناك زعامات فأولهما شرط للثاني , فمتى تدرك الرعية بان الزعامة هي منصب وهمي تنظيري لايمس الواقع ولا ينتج غير كمٌّ من الخطاب والحديث والسرد الارثي لتبقى الرعية في تلك الحلقة من العاطفة والسذاجة ولا يكون بامكانها ان تحرر عقولها وتنور طريقها لتحقق وتفكر وتسال في يوم من الايام , ماذا قدمت كل تلك الزعامات التي تعاقبت عبر حقب التاريخ من حصاد علمي او ثقافي ليرتقي بنا الى مستوى حضاري اعلى وانتاج مادي اوفر وتربية وتعليم ارقى وعلم وثقافة اوسع وأسمى , المجتمعات الحضرية اليوم قد اخرجت من ثقافاتها مصطلح الزعامة ونبذته لانه الحلقة الاولى من حلقات السلطة والجاه والنفوذ وذلك اول باب من ابواب الفشل والفساد والتخلف وقد خاضت الشعوب تجارب كثيرة للسيطرة على الزعامات وتقليل سطوتها واقتلاع جذورها وتقليم ادواتها واطاحت بعروشها بثورات اصبحت اليوم مفصلا في حياتها وبنت بدلا من ذلك مؤسسات دستورية وقانونية وقضاء عادل وفاعل وبرامج للتنمية البشرية على مستوى عالي من المهنية لتفعل القدرة الانتاجية في المجتمع ولتقبر مفهوم الزعامة والى الابد ونتيجة لذلك تنامى الاقتصاد بشكل مضطرد واصبحت قوة الدولة ونفوذها بقوة المؤسسات الاقتصادية العاملة فيها وبحجم الانتاج والاستثمار والتطوير وتشغيل الكوادر لتصبح لها بذلك مؤشرات ومعايير قياسية وفي الوقت نفسة طورت مناهج التعليم وارتقت بمفهوم الانسان والحرية والعدالة ضمن مجتمع حضري متكامل الثقافة والوعي فلا حاجة للافراد ابدا الى زعامة او رمزا لكي يتبعه ويدين له بالولاء فهم يدركون بانها مفاهيم خاوية من محتواها قد غيبتها الحداثة واصبحت عاجزة على التاثير في الواقع الذي ارتبط بالقانون والانتاج بينما اطلقت الحرية الفكرية والاقتصادية التي أُطرها القانون والحقوق والواجبات مفاتيح الابداع العلمي والصناعي والتكنولوجي والابحاث الطبية والفيزيائية والاحيائية وبالتالي تطورت اساليب التعامل مع
الحاضر لتمهد الى استقرارية المستقبل , ومن ثم الانطلاق نحو الانفتاح مع شعوب العالم مع المحافظة على الخصوصية والهوية وتقديم الارادة الوطنية وتعزيزها لبناء مجتمع منتج ومتكافئ .
على الفرد ان يتبصر في حاله وان يتعمق في فكره وان يبحث في محيطه بما يمتلكه من ارادة حرة تمكنه من تحديد هدف وأمل له كغاية يروم الوصول اليها وان يرى المحددات والمعوقات التي تحجز غايته تلك من ان تسير على الطريق الصحيح ولابد له من ان يستدرك واقعه المعاشي اليوم ويسال نفسه لماذا علية ان يتبع من هو في ترف من العيش رغيد وهو في قرف من العيش شديد , ما الذي يدفعه الى ان يكون تابع الى من هو انسان مثله هل في ذلك وصولا في العقيدة الى درجة الايمان والتقوى وهل في ذلك ابتغاء الوسيلة الى الله ام هو تعصب وتمسك برمز سار العامة عليه كتقليد من دون بصيرة ولا ادراك , مالذي يمكن فعلا ان يحدد مصير الامة والشعب والفرد أهي الزعامة وما ترتديه من السلطة التي اصبحت تتحكم في الجموع واصبحنا فرقا لا تعد ولا تحصى , او ان الذي يحدد المصير هو الهوية الوطنية وطلب العلم والمعرفة والبحث عن الحقيقة , وهذه لعمري مسؤولية كبرى على اصحاب العقول والثقافة وعلى الكتاب والمفكرين ان يوجهوا المجتمع الى حقبة من الزمن عصرية والبدء من نقطة شروع لتنوير العقول واللحاق بما فاتنا من العلم الذي يستند على الشك والتجربة والدليل بدلا من الانغماس في التاويل والخرافة ومن حلقات تدور في الجهل والسذاجة والبحث في متاهات لاتنتج الا الزعامة والزخرف من الخطابة .
مقالات اخرى للكاتب