لم أشأ تعليق القميص الأخضر الذي ابتعتُهُ من سوق سقف السيل بخزنة الملابس . هو سهيري ونديمي الليلة الموحشة ، وسيقصّ عليَّ ما بقي في ذاكرته من حكايات مبهجات وتعيسات .
كان بودّي أن أسأله عن البلاد التي أتى منها ، لكنني تراجعتُ كي لا أوجع قلبه بدخان الذكريات المجيدة . لم أر مثله أبداً ، إذ كان جيبهُ يُفتح من جنب ، ومغلاقه بزرٍّ وحيد كأنه يريد أن يحكي رواية الخسارات الضخمة . سأقطع القصَّ قليلاً لأٌخبركم بأنني اشتريت مرةً بنطلون جينز من نفس سوق البؤس ، وقبل غسله وكيّهِ قمتُ بتفتيش جيوبه بقوة الأمل ، فتعثرت أصابعي بورقة نقدية من فئة دولار واحد ، أما قميصي الليلةَ فيوحي بأنّ لابسَهُ الأول هو أحد عتاة المفلسين على الأرض . ثمة خيوط متهرئة مازالت مزروعة بمكان انخلاع الزرّين الأخيرين القريبين من الحنجرة . ألأرجح هو أنّ الولد كان يشعر بالإختناق من منظر مشنقة ، وقد يكون تورّط بشجارٍ ضدّ أربعة ارهابيين كانوا ينطرون بباب السينما ، التي لفظت آخر الزبائن ، فخيّروه بين ترك علبة سكائره لهم والرجوع إلى بيته سالماً مسالماً ، أو قبول نتائج عناده ودفاعه عن آخر لفافتي تبغٍ رديء نائمتين ببطن العلبة . مشهد الشقّ القليل الذي ظهر على بيت الزرّ الأعلى يفسّر بثقة تكاد تكون مطلقة ، إنّ الفتى الأحمق كان قد تباطح مع شلة الحرامية المعتدلة ، فخسر زرّين عزيزين من أعلى القميص ، وانولدت فوق مؤخرته الذاوية ركلة الكرامة الشخصية . في الواقع أنا أحببت هؤلاء الحرامية الرحماء الذين لم ينزعوا القميص من جسد الولد الأرعن ، كما صنع أشباههم القساة مع أكاكي الفقير ، إذ خلعوا معطفه الجديد وتركوأ أسنانه تعزف سيمفونية الثلج الأسود . حدث هذا في قصة مذهلة أظن أن عنوانها المعطف للروسي نيكولاي غوغول .
من البائن جداً أنّ هذا الملبوس قد داستْهُ أقدام عتّالين قساة ، فدعكتهُ بأرجلها الثقيلة ورسمت على زرّه الثالث طعجة صغيرة لا دواء لها . كنتُ أفكّر قبل ساعة بشرح احتمالات تعدد الأجساد التي ارتدت قميصي الأخضر ، لكنني خلعتُ الفكرة من خبث مخّي ، وخفتُ من انفتاح بيبان النصّ على جنس كتابيٍّ غير صنف القصة القصيرة ، حيث أدوّنها الآن بكثير من التنبلة والكسل ، الذي ضربني البارحة وجعلني أنام على أول زكامٍ في شتائي الجميل .
من تلك القفلة الرائعة ، سأتوقف عن الكتابة ، وأترك فصل الحكاية هذه كي يتمّها عليكم كاتبٌ آخر ، سيهبطُ يوماً صوب عربانةٍ بائسة ، ويشتري قميصي الأخضر ، ويشتله فوق مائدةٍ شاسعةٍ قد تُنتجُ كأسها البيضاء روايةً هائلة ، بطَلها قميصٌ من دون أزرار كان قُدَّ من دُبْرٍ .
مقالات اخرى للكاتب