في ماهية الدستور
إذا كان الدستور عقداً اجتماعياً للشعب أو الأمة، ولما كان الدستور جملة من العقود الدستورية التي تلزم في كيفية تشكيل السلطات وكيفية ممارسة السلطة بالإضافة إلى القواعد السياسية، نظام الحكم أو الأسس الاقتصادية والاجتماعية التي يهدف إليها كذلك الحقوق والحريات التي يسطرها للمواطنة، وإذا كان الدستور بهذا الوصف فهو (الأداة الأساسية في بناء السلطات والدولة في كافة مرافقها، ولما كانت القواعد الدستورية تتصف بالسمو والعلوية وهاتين الصفتان لا تتمتع بهما القواعد الأخلاقية أو القواعد القانونية وسواها.
لهذه الأسباب لابد من أن نفكر معاً في كيفية وضع الحلول الجادة والإلزامية لحماية المبادئ الدستورية أي صيانتها، بخلاف ذلك تكون المبادئ الدستورية مبادئ عادية شأنها شأن أي قاعدة أخلاقية، ولكن ما هو نوع الحماية التي نريدها لعقدنا الاجتماعي (الدستور) ومن يضع هذه الحماية ويتابعها؟ بعبارة، من يحمي القواعد الدستورية؟
نحن (الشعب) من يحمي الدستور أم أن الدستور يحمينا؟
بعبارة من يحمي من ؟
العلاقة بالتأكيد متبادلة بل جوهرية وأساسية بين الحكام والمحكومين والدستور. ثلاثية يتبادل الأدوار فيها الحكام والمحكومون وتبقى القاعدة الدستورية (جامدة) إن لم يحركها تطبيق الحكام والمحكومين. فالحاكم لا يستطيع أن يمارس عمله اليومي دون أن يستند إلى الدستور (القاعدة العليا السامية) لكن (الحكام) لا يطبقون الدستور دائماً فالحاكم قد يخرق أو يتجاوز الدستور أو يتجاوز الحدود الواردة فيه، في كل الأحوال هناك خرق في دستورية القوانين أو الأنظمة أو التعليمات وهناك تجاوز للحدود الدستورية، فما هو العلاج؟
بالتأكيد إن القواعد الدستورية عادة ما تكون عامة غير مفصلة تحتاج دائما إلى نصوص قانونية لإنزالها لأرض الواقع فهذه النصوص قد لا تطبق القواعد الدستورية تطبيقاً سلبيا من قبل المشرع العادي.عندها ينشأ الخلاف وتبدأ المعالجة في جانبين أساسيين :-
1- القضاء الدستوري.
2- الرقابة الشعبية (مجاميع الضغط المجتمعي).
فالقضاء الدستوري قضاء متخصص بالفصل في المنازعات الناتجة عن تطبيق القواعد الدستورية أو مخالفتها أو تجاوز الحدود التي تحددها، عندها بالإمكان اللجوء إلى هذا القضاء لحسم الخلافات الناشئة عن ذلك.
شرعية المحكمة الاتحادية العليا (الحالية)
استحدثت المحكمة الاتحادية العليا بالأمر التشريعي رقم 30 لسنة 2005 الصادر عن الحكومة المؤقتة والتي تتمتع بالاختصاصين التشريعي والتنفيذي المستمد من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية الموقع عليه من قبل أعضاء مجلس الحكم في آذار /2004 وهذه المحكمة مكونة في تسعة قضاة بينهم الرئيس يجري تعينهم من مجلس الرئاسة بناء على ترشيح من مجلس القضاء وقد حددت اختصاصات المحكمة في المادة 4 من الأمر التشريعي بالفصل في المنازعات التي تحصل بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات والبلديات والإدارات المحلية والفصل في المنازعات المتعلقة بشرعية القوانين والقرارات والأنظمة والتعليمات والأوامر الصادرة من أية جهة تملك حق إصدارها كذلك الطعون التي تقدم عن الأحكام والقرارات الصادرة من القضاء الإداري بالإضافة إلى الاختصاص الأخير والمتعلق بالنظر بالدعاوى المقدمة أمامها بصفتها استئنافية وينظم اختصاصها بقانون اتحادي.
وقد خولت المادة 9 في الأمر التشريعي المحكمة الاتحادية العليا بإصدار نظام داخلي تحدد فيه الإجراءات التي تنظم سير العمل في المحكمة وكيفية قبول الطلبات وإجراءات الترافع.
وقد أصدرت المحكمة الاتحادية العليا النظام رقم 1 لسنة 2005 بين إجراءات سير العمل في المحكمة الاتحادية العليا.
واستمرت هذه المحكمة تمارس عملها (كقضاء دستوري) لغاية الانتخابات العامة لمجلس النواب الدورة/1، والتي ابتدأت في 16/3/2006 دون أن يثار أي طعن في عمل هذه المحكمة من حيث تشكيلها واختصاصها وهي بالتأكيد تمارس عملها طبقاً لأحكام قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية. بداية الأزمة في شرعية المحكمة الاتحادية العليا
نفاذ دستور جمهورية العراق الدائم لعام 2005 يعتبر البداية في الأزمة المثارة حول شرعية أو عدم شرعية المحكمة، كذلك اختصاصاتها.
حيث نظمت المواد92-94 من الدستور كيفية تشكيل المحكمة الاتحادية العليا وكذلك الاختصاصات التي تمارسها (المحكمة البديلة) اختلاف في التشكيل وآخر في الاختصاصات .
إن المشرع الدستوري وطبقاً لأحكام المادة 92 من الدستور بين تشكيل المحكمة الاتحادية العليا من عدد من القضاة وخبراء في الفقه الإسلامي وفقه القانون، يحدد عددهم وتنظم طريقة اختيارهم وعمل المحكمة بقانون.
وواضح من التشكيل أن المادة الدستورية تركت تحديد عدد القضاة إلى القانون الذي يشرعه (مجلس النواب) وقد يكون العدد اقل أو أكثر من قضاة المحكمة الاتحادية العليا (الحالية المشكلة بموجب الأمر التشريعي رقم 30 لسنة 2005، كذلك أضاف المشرع الدستوري للقضاة أي للذين ينتسبون (للسلطة القضائية) فقهاء في القانون والفقه الإسلامي يحدد القانون طريقة اختيارهم.
وهذه التشكيلة بالتأكيد محط أنظار ونقاش أما ما يتعلق بالاختصاصات التي تتمتع بها المحكمة الاتحادية العليا فهي أوسع بكثير مما ورد للمحكمة الاتحادية الحالية فهي بالإضافة إلى الاختصاصات القضائية (اختصاص الحسم والفصل )الوارد في الفقرات/ثالثاً ورابعاً وخامساً وسادساً وثامناً من المادة 93 في الدستور والتي تبتدئ عادة بعبارة (الفصل في ....) وهي لفظ الحسم بقرار قضائي أضيف إليها الاختصاصات الآتية:-
أولا- الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة.
ثانياً- تفسير نصوص الدستور.
ثالثاً- المصادقة على النتائج النهائية للانتخابات العامة لعضوية مجلس النواب. ولان رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء سوف يتمتعان بالاختصاص كرئيس للجمهورية بدون هيئة رئاسة كما يرد في الدورة الأولى لمجلس النواب 2006 ـ 2010 فقد اختصت المحكمة الاتحادية العليا بالفصل في الاتهامات الموجهة إلى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء وينظم ذلك بقانون.
كما ألزمت المادة 94 دستوريا (قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتة وملزمة للسلطات كافة ).
وواضح أن المواد 92-94 من نصوص الدستور قد تضمنت العديد من الاختصاصات التي لم تذكر في الأمر التشريعي 30 لسنة 2005 بالإضافة إلى آلية التشكيل لهذه المحكمة. حجج الرافضين لامتداد عمل المحكمة الاتحادية (الحالية) إن الرافضين لاستمرار عمل المحكمة الاتحادية العليا يستندون إلى الأسباب الآتية:
1- إن المحكمة الاتحادية العليا شكلت في ظل قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية لسنة 2004 وان هذا القانون قد الغي عند بداية نفاذ دستور جمهورية العراق لعام 2005 إذ أن الاختصاص الوارد في تشكيلة المحكمة يتناسب والمواد الواردة في القانون المذكور بالتالي هناك فرق كبير بين مواد قانون إدارة الدولة والنصوص الدستورية ولان الدستور ألغى قانون إدارة الدولة وأن المحكمة تمارس عملها بالاستناد للقانون فهذا يعني نهاية عمل المحكمة.
2- إن الاختصاصات الواردة في المواد 92- 93 من الدستور أوسع بكثير من الاختصاصات التي وردت للمحكمة في الأمر التشريعي 30 لسنة2005.
3- منحت المحكمة الاتحادية العليا المطلوب تشكيلها طبقاً للدستور الدائم لعام 2005 اختصاصات جوهرية ومنها
أ- تفسير الدستور.
ب- المصادقة على النتائج النهائية للانتخابات العامة لعضوية مجلس النواب .
ج ـ الفصل في الاتهامات الموجهة إلى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء.
وهذه الاختصاصات لم ترد في اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا(الحالية) وبالتالي فالرافضون يطلبون إيقاف عمل المحكمة أو إنهاء عملها (للاختلاف الحاصل في التشكيل الاختصاصي) مناقشة حجج الرافضين وإبطالها
من الناحيتين الدستورية والقانونية:
1- إن المحكمة الاتحادية العليا شكلت بالأمر التشريعي رقم 30 لسنة 2005 من قبل الحكومة المؤقتة التي استلمت السيادة من سلطة الائتلاف المؤقتة والتي اختصت بالسلطتين(التشريعية والتنفيذية) وحيث أن هذه الوزارة (الحكومة) مختصة بإصدار أوامر تشريعية لها قوة القانون كان الأمر التشريعي رقم 30 لسنة 2005 قد صدر بالاستناد إلى الاختصاص الذي تتمتع به الحكومة المؤقتة.
2- إن الدستور النافذ دستور عام 2006 قد منح كافة التشريعات والقوانين والأوامر صفة الامتداد القانوني والنفاذ ذو الاستمرارية ما لم تلغ أو تبدل أو تعدل هذه التشريعات، سواء اتخذت شكل القانون أو التعليمات أو الأوامر التشريعية وهذا ما جاء بنص المادة 130 / دستور والتي تنص على ما يلي (تبقى التشريعات النافذة معمولا بها ما لم تلغ أو تعدل وفقا لأحكام هذا الدستور).
وبالتالي فهذا النص كما يقول المناطقة جامع مانع في محتواه باعتبار أعمال المحكمة ممتدة لحين تشريع قانون المحكمة الاتحادية طبقاً لأحكام المادة 192 من الدستور.
3- وبالرغم من سعة الاختصاصات التي وردت في الدستور خلاف تلك التي سطرت بالأمر التشريعي 30 لسنة 2005 فان الامتداد القانوني الدستوري للمحكمة الاتحادية العليا (الحالية) يعتبر ممتداً بالاختصاصات الدستورية الجديدة الواردة في المادة 93-94 من الدستور بحكم المادة 130 من الدستور.
4- إن نفاذية الدستور العام 2006 وما ورد فيه من أحكام وما ينشأ عند التطبيق من نزاعات تستوجب أن يكون هناك قضاء دستوريا متخصصا إذ لا يجوز أن يعتبر الدستور العراقي نافذاً دون أن يقترن ذلك بقضاء دستوري يمارس كافة الاختصاصات الجديدة الواردة في المادتين 93-94 من الدستور ولان الدستور حق لكل مواطن فقد منح مجلس الوزراء وذوي الشأن من الأفراد وغيرهم حق الطعن المباشر لدى المحكمة.
ولنا عودة على القرارات المثيرة للجدل التي أصدرتها المحكمة الاتحادية العليا منذ 2005-2011 وفي عرض هذه القرارات والتعليق عليها وتأثيرها على العملية السياسية الديمقراطية في البلاد والرأي العام العراقي.