برز مصطلح المصالحة الوطنية في أفق المشهد السياسي العراقي بعد احتدام الأزمة الأمنية الخانقة غداة تفجير مرقد العسكريين (شباط 2006) والخشية من انزلاق البلاد في حرب أهلية طاحنة بدأت ملامحها في التبلور آنذاك، فقد بلغت بعض الأحداث ومضاعفاتها إلى درجة يمكن ان توصف بالحرب الأهلية وظهر مع بروز هذا المصطلح جدل حامي الوطيس بين الفرقاء السياسيين فضلا عن اسئلة مفادها: ماذا تعني المصالحة الوطنية وماجدواها وآلياتها ومقارباتها ومضامينها ومع من نتصالح ولماذا نتصالح؟ وكيف نفعل ذلك؟ وهل وصلت الأمور إلى درجة من انعدام الثقة وسوء الظن واستفحال التناحر وانفراط ثوابت العقد الاجتماعي واندثار ثقافة المواطنة ما يقتضي التصالح مع "الآخرين"؟ ومن هم الآخرون؟ وهل هم الشركاء في فضاء الوطن والمواطنة؟ ام هم من الصنف المضاد والمعاكس اي هم الذين نطلق عليهم صفة الاعداء والمناوئين او من وقف بالضد من العملية السياسية والتغيير النيساني المزلزل وبتعبير أكثر دقة قد يكون "الآخرون" هم ممن تلطخت أياديهم بالدم العراقي او ساهم بذلك وممن تورطوا بذلك؟.وليست مآلات المشهد العراقي فحسب هي التي أوحت بفكرة المصالحة وتحقيق حيثياتها، فالكثير من دول العالم مرت بظروف مقاربة للظروف العراقية وحققت مصالحات تاريخية وتجاوزت عُقدا مستعصية كثيرة وعبرت فوق أزماتها وأرست قواعد التسامح وغض النظر وفتح صفحات جديدة أمام مواطنيها على اختلاف ألوانهم وقضاياهم التي أوجبت التنافر مع مواطنيهم وطي سجل تلك القضايا وقطعت أشواطا بعيدة في هذا المسعى كجنوب أفريقيا وغواتيمالا وغانا بحسب آلية (عفا الله عما سلف) التسامحية. ولأجل ان تحقق المصالحة الوطنية أهدافها المتوخاة وتخرج من شرنقة الشعارات والمضاربات الحزبوية والتجيير للمصالح الخاصة يجب ان تُحدد اولا أهداف المصالحة الوطنية من جميع الأطراف المنضوية تحت خيمتها والساعية الى تحقيقها داخل إطار المواطنة وتجذير المواطنية داخل منظومة المصلحة الوطنية العليا وثانيا يجب ان تُحدد ماهية المصالحة ولماذا هذا التصالح، وثالثا يجب تحديد أطراف المصالحة ومع من يتم التصالح والشيء الأهم من يصالح من؟ وقبل كل شيء يجب ان تتوفر النية الحقيقية الرامية الى المصالحة قبل الشروع بها والانطلاق من قواعدها، لكي يتحقق مضمون وجوهر المصالحة التي تعني في ابسط تعريفاتها انها:عملية توافق وطنيّ، تنشأ على أساسها علاقة بين الأطراف السياسية والمجتمعية، وتقوم على قيم التسامح، وإزالة آثار صراعات الماضي، من خلال آليات محددة واضحة وفق مجموعة من الإجراءات تهدف للوصول إلى نقطة الالتقاء. وتعني المصالحة في ما تعنيه التصالح بين طرفين او أكثر تشهد العلاقات بينهم توترا قد يكون مزمنا ويسبب تهديدا للسلم الأهلي او خطرا على كيان الدولة والأمن القومي او المجتمع فتكون المصالحة الحل الأخير لدرء الانفراط المجتمعي وتفكك الدولة وتشرذم مواطنيها.
وقد عاش المشهد السياسي العراقي محاولات خجولة في هذا المسعى (التصالح) إلا انها لم تأتِ أكلها ولم تثمر عن خطوات من شأنها ان تؤدي الى زرع الثقة بين المكونات المتنافرة مجتمعيا او قوميا او اثنيا او مناطقيا، وعلى سبيل المثال وثيقة مكة (2005) التي تم توقيعها بين علماء الشيعة والسنة لحل النزاع الطائفي وقد خرجت هذه الوثيقة بتحريم الدم العراقي دون وضع آلية عملية لذلك!!. ومع هذا تبقى تجربة جنوب أفريقيا من أهم التجارب العالمية في مضمار المصالحة الوطنية ومثالا عالميا يحتذى به على جميع الأصعدة كونها حققت جميع آليات المصالحة الوطنية وإرهاصاتها ومقارباتها التي تكمن في قبول التعددية والرأي الآخر وثقافة التسامح والتعايش السلمي وتقريب وجهات النظر بين الفرقاء وردم الفجوات وتضييق المسافات بينهم وترسيخ مبدأ المواطنة وتفعيل التعايش السلمي، وقد نجحت جنوب أفريقيا في تجربتها التاريخية كأنموذج لوجود النية المشتركة والاتفاق على آليات للتفاهم المشترك وطي صفحات الماضي لا سيما المستعصية منها وبعيدا عن منطق الإملاءات والاشتراطات التي تعيد الأمور الى نقطة الصفر، وساعد على ذلك وجود توافقات سياسية وتفاهمات مجتمعية وقبول جماهيري، ما خلق انسجاما عاما ومناخا وطنيا مريحا وبحد مقبول للجميع بتفعيل آليات العقد الاجتماعي وبناء دولة المؤسسات، وهي ذاتها الأهداف المتوخاة من أية مصالحة وطنية كان أحرى بالفرقاء السياسيين العراقيين ان يحذوا حذوها من اجل تأسيس فضاء وطني مقبول للجميع.ويبقى الجدل البيزنطي العراقي حول المصالحة الوطنية قائما إلى أن يتحقق منسوب مقبول من التوافق الوطني والانسجام المكوناتي والنية المشتركة لتحقيق الحد الأدنى من اشتراطات المصالحة الوطنية.
مقالات اخرى للكاتب