جئتُ الى نقرة السلمان ثلاث مرات . المرة الأولى كنتُ فيها زائراً متفرجاً ، والثانية سجيناً سياسيا' والثالثه موقوفا بدون أية تهمه ولا حتى مذكرة توقيف. وإن مجموع ما سلخ هذا السجن من عمري بلغ خمس سنوات بالتمام والكمال .
فالزيارة الأولى كانت في ربيع عام 1957 عندما كنتُ طالباً في كلية الاركان .
وقفتُ أمام مركز شرطة البادية في السلمان المشيد على هضبة تواجه السجن الرهيب المعروف باسم ( سجن النكَرة ) أنذاك . احاسيسي كلها في تلك اللحظات كانت مشدودة الى ذلك البناء الحجري الرمادي اللون المائل قليلاً الى اللون الأسود . كنتُ قد سمعتُ الكثير عن هذا السجن قبل مجيئي إليه . حدثني عدد من أقاربي وأصدقائي ممن عرف أبناءهم السجناء طريقهم الى هذه البقعة الصحراوية .. أتطلع بألم وحزن الى السجن وأنا أتذكر العديد من المناضلين الذين قضوا فيه سنوات شبابهم منذ بداية الخمسينات .
كان منهج الدراسة في كلية الأركان آنذاك يتضمن قيام ضباط الدورة بجولات ميدانية لمناطق العراق كافة ، على وجه التحديد أن يقوموا بزيارة استطلاعية للمناطق الحدودية .
انطلقنا ، نحن طلبة الدورة ، من بغداد الى كربلاء ومنها الى " البصيّة " ومن ثم الى " النخيب " ومنها الى نقرة السلمان . كان منهاج الدورة هو القيام بجولة في اغلب مناطق البادية الجنوبية الغربية بمراحل . في كل مرحلة يتوقف الرتل حيث ينصب مخيمنا لتبدأ الدراسة الميدانية على الأرض تطبيقاً للدروس العسكرية وصفحات القتال المقتضية .
في يوم مشمس وصلنا الى نقرة السلمان . شيد المخيم قرب مركز شرطة البادية . قضينا ليلة شديدة البرودة وفي صمت مطبق يسود القرية كلها كأن أهاليها من الأموات . لم نسمع أي صوت كما هو الحال في قرى الارياف العراقية التي مررنا بها من قبل . حتى أننا لم نسمع نباحا للكلاب وكأن لا وجود لأحياء في هذا المكان .
في الصباح بدأنا التجوال والاستطلاع لمعرفة جغرافية النقرة أولاً ومن ثم معرفة طبيعتها الطبوغرافية وأمور أخرى من الوجهة العسكريه .
في ذلك اليوم سجلتُ في ذاكرتي ان النقرة منخفض ارضي قطره يتراوح من ثلاثة الى خمسة كيلومترات ، وأن انخفاضه عن مستوى الأرض المحيطة به يتراوح بين ثلاثة أمتار وعشرة أمتار . في وسطه بنيت عليه منشآت الإدارة الرسمية ومركز الشرطة مع عدة دور بسيطة من الطين و" اللبن " يسكنها افراد الشرطة وسجانة السجن . في داخل المنخفض ارض مستوية شيدوا عليها هذا السجن الرهيب كما تتواجد المياه الجوفيه فيه وقد حفرت الآبار الارتوازية إلا أن معظمها لا يصلح للشرب .
قيل لنا إن تسمية السجن ( السلمان ) جاءت من شخص بدوي كان يعيش في المنخفض منذ عشرات السنين يرعى إبله فيها وحواليها . لما مات سميت المنطقة باسمه وأصبح مركزا معروفا منه يستدل البدو المتجولون اتجاهات الصحراء المختلفة .في حينه لم ندخل الى السجن لكنهم قالوا إن تشييده جرى على يد السلطات العسكرية البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى تحت إشراف ( كلوب باشا ) الذي تولى قيادة الجيش الأردني .كما يبدو وكما قيل لنا في محاضرات المدرسين في كلية الأركان فأن الغاية الرئيسية من بناء هذه القلعة هي لأغراض عسكرية بالدرجة الأولى . تحديداً أنها مقررة كقاعدة للدفاع وصد الهجمات والغارات التي تقوم بها العشائر السعودية على غرب العراق لما لموقعها الجغرافي من أهمية كونها تقع في نقطه وسطيه بين حدود الأردن والعراق والسعوديه حتى الكويت .قيل في محاضرات القادة العسكريين أيضاً أن في هذا المنخفض فوائد جمة مناخية وعسكرية متعددة الأغراض في تلك المنطقة الصحراوية .توقف عربي فرحان لحظات وهو ينظر الى وجوه مستمعيه ثم قال : أنني أعتقد أن الأنكليز أوجدوا هذه القاعدة لتأمين حماية عسكرية لمنطقة الرميلة النفطية من جهتها الشمالية الغربية وهي منطقة حيوية في وقت كانت الشركات البريطانية تبحث فيه عن مكامن أغزر ثروة نفطية في العراق.مرة أخرى توقف عربي فرحان عن الكلام لبعض الوقت ثم عاد متحدثاً :ها أنذا أعود الى نقرة السلمان هذه المرة لكنني لست زائراً بهندامي العسكري بل جئت اليها سجيناً . فقد دخلتُ الى النكَرة في بداية عام 1961 ومعي ثلاثة من السجناء مرحلين من سجن العمارة . لم نكن نعرف سبب ترحيلنا من ذلك السجن القريب من المدينة والاسواق والاهالي ، وقريب من نهر دجلة أيضاً. لكن الواضح من مجمل ما واجهناه في سجن العمارة أن السبب الرئيسي هو الدور التحريضي الذي لعبه ضدنا المدعو جعفر العباسي صاحب جريدة بغداد الذي كان قد لعب دوراً مماثلا قبل ذلك حين سخر جريدته بالكامل لتحريض عبد الكريم قاسم ضد الحزب الشيوعي . لم يكن سجيناً أنذاك لكنه كان مبعداً بأمر الحاكم العسكري العام مقيماً في مكان خاص مريح في السور الخارجي للسجن .على ضوء تقاريره نقلونا من العمارة الى السلمان كما قال لي جاسم شلش مفوض الامن الذي أجرى التحقيق معي في مديرية أمن العماره قبل التسفير الى البصره .تحدث عربي فرحان عن تفاصيل كثيرة في مجابهات كثيرة مع أعدائه وأعداء ثورة تموز .أنا أعرف عربي فرحان جيدا منذ وصوله إلى البصرة بعد قيام ثورة 14 تموز . طيلة السنوات التي اعقبت تعارفنا الاول بقيت احتفظ بذكريات كثيرة طيبة عنه فهو من العراقيين الاصيلين المتمسكين بالعمل من اجل الاخرينعرفته مناضلا حقيقيا من اجل مصلحة الشعب العراقي . لكن روحه الجديدة بعد الثورة لم تجعل بعض القادة العسكريين الكبار معجبين بهذه الروح لأنهم بالاساس ضد الثورة لذلك كان يطمحون تحقيق ما ينم عن شعورهم بواجب الاطاحة بالدور العسكري لعربي فرحان . خططوا من اجل ذلك ونجحوا بسبب غفلة الزعيم عبد الكريم قاسم فهو لم يكن يقدر تقديرا سليما ان التسلسل التاريخي لخطواتهم في معاداة الثورة يتطلب منهم ان يضربوا اولا ضربتهم الاولى لعربي فرحان وامثاله من الكوادر العسكرية الواعية و الوسيطة بين جماهير الشعب والثورة، وزج عربي فرحان وأقرانه من العسكريين الثوريين وراء الزنازين
مقالات اخرى للكاتب