أحيانا كثيرة اقلب ذاكرتي واقف عند محطاتها، مواقف كثيرة ظلت محفورة في ذاكرتي ولم تغادرها، رغم مرور عقود من الزمان، أهمها حين خطوت الخطوات الاولى باتجاه مدرستي، وتفتحت أحاسيسي على متعة اللون وجمال المقتنى عبر ما كان يشتريه وابي رحمه الله من سوق الهنود في العشار المركز التجاري الكبير في مركز مدينة البصرة، وحين كنا نذهب اكثر ما كان يشدني وسط المدينة تضاريس المكان التي تبرق بالتعاطف و التأثيث الإنساني وترسخ خصوبة المدينة بمناظرها الساحرة الخلابة، وبعد أن نعود قريتنا يظل قلبي مشغولاً بالعشار . التماثيل الشامخة أحدى اهم المعالم، كنت أتأملها كثيرا وأسأل وابي رحمه الله عنها، فيجيبني بما يعرف عنها، أهمها السياب والخليل بن احمد الفراهيدي واخرون، لكن تمثال العامل في ساحة ام البروم لم يكن لشخص محدد بل يمثل رمزا من رموز العطاء، كان يشدني منظر العامل القوي بعضلاته المفتولة حاملا مطرقته الكبيرة، ظل ذلك التمثال لغزا محيرا لي حتى حين كبرت، لكن القدر شاء ان اكون احد اصدقاء النحات الكبير (عبد الرضا بتور) صانع التمثال، ومثلما يقال :المصادفة كانت خيرا من الف ميعاد، كنت طالبا في الكلية ومحبا ايما حب لأسماك الزينة، طرقت ابوابا كثيرة باحثا عن معلومات تمكنني التعامل الصحيح مع تلك الكائنات الرقيقة، وعن وكيفية تكثيرها أذ لم تكن آنذاك المعلومات متاحة من كتيبات وانترنت مثل هذه الايام، لكن دون جدوى، الذين يعرفون يرون في تعليمي خلق منافسا لهم، الا عبد الرضا بتور كأحد المربين البارعين، فتح لي ابواب المعرفة على مصراعيها وابدى لي مساعدة رائعة وكأني احد ابنائه، فعمله اعواما طويلة في متحف التاريخ الطبيعي محنطا للحيوانات ومربيا للأحياء المائية اكسبه خبرة ممتازة، من يومها لم اكف عن السؤال عنه وعن أحواله فلقد حملني دينا كبيرا، وكلما اقتربت منه أكثر ازددت حبا له، وصرت اتابع جميع اعماله الفنية الرائعة ، ولعل أهم نتيجة حتمية تبلورت في ذهني مع الايام أن تمسكه بالفن كان لأجل الفن والحياة، فكثير من الاعمال المهمة والكبيرة لم يتقاض عليها اجرا، ولعل تمثال العامل وهو العمل الابرز للنحات خير شاهد فقد نفذه من جيبه الخاص ودون ان يتقاضى اي مقابل. الحديث عن بتور كأحد المبدعين يزيد من شكوكي في حديث الساسة عن دعم الابداع والمبدعين، ولعل الدراجة الهوائية القديمة التي رافقته أعواما طويلة أحدى شواهد الاهمال، إهمال العراق القديم ومن بعده الجديد، ماذا قدمت له الحكومة السابقة في محنته ايام حصار التسعينات، وماذا قدمت له الحكومة الحالية، فليوم هو مقعد وغير قادر على المشي، ويعاني الامرين ويطرق ابواب لأطباء لكن دون جدوى، والاصعب أصابته بصدمة اليأس والخذلان من تجاهل اصحاب الشأن، هم اليوم وحدهم القادرون على تطبيبه بأرقى المشافي العالمية المتخصصة وبأموال الدولة، الا يشكل موقف الحكومة هدم للفن والابداع، رغم ادعاءاتهم والمتكررة بانهم رعاة للفنون والثقافة. في لقائي الاخير معه تملكتني العبرات حين شكا تقصير كثير من اصدقائه وعزوفهم حتى عن السؤال عن احواله، من يزيد من المه انه لم يقصر مع أي منهم ، يبدو أن الخراب عم البلاد والعباد الا ما ندر، والمصالح الشخصية تخطت حدود السياسة وساستها واستوطنت قلوب الكثيرين، وما عاد تمثاله الابرز (العامل) وهو يحمل مطرقته بهمة وعزيمة مثالا لهم وقدوة للعمل المنتج الجاد، فنحن في زمن الخراب، زمن (الفهلوة).
مقالات اخرى للكاتب