الحرية .. كلمة
في غفلة من الزمن . في لحظة من العمر . تنحرف المكاييل وتميل الموازين . تضطرب البوصلة . تهتزّ القيم . يهبط مستوى الحكم . يهون الحق وينتعش الباطل . تختلط الألوان لتضبّب الرؤيا . لا يكون هناك مكان لرجل شريف . تروّج بضاعة الفاسدين . كل هذا الهوان يكون مؤقتاً . أمّا أن تبقى الموازين غير مستقيمة فهذه لعنة وجريمة لا تغتفر .
بدأت الدعايات الانتخابية لمجالس المحافظات ، ومعها بدأت جوقات التضليل والخداع في أكبر عمليات النصب والاحتيال باسم الديمقراطية والتعددية والاتجار بمشاعر الغبن لدى المسحوقين . تتحدث لنا عن تحويل العراق إلى جنة ، والليل إلى نهار ، والظلم إلى عدل ، واليأس إلى أمل ، واليباس إلى خضرة ، والمستنقعات الآسنة إلى نوافير ، والكهوف إلى ناطحات سحاب ، وأن هؤلاء المرشحين هم خيار من على هذه الأرض ، بل هم الشموع التي تحترق في سبيل أن تضيء لنا ظلمات الطريق ، فويحك أيتها الديمقراطية .
ينتابني شعور بالقرف كلما وقفت عند هذا الدجل الرخيص في الشعارات والملصقات التي تنتشر هذه الأيام بكثافة في الشوارع والميادين ، وتغصّ بها المدن والقرى . لم يختلف المشهد هذه المرة عن ملامحه السابقة ، بل زادت كمية الشعارات وابتكار المفردات والرموز، واتسعت أحجام اللافتات ومساحات الصور لمرشحين بكامل أناقتهم ، ويلفت النظر أن طبقة من الساسة الفاسدين زجّوا بأقربائهم للترشّح في هذه الانتخابات ما يؤكد حلاوة هذا الكرسي العجيب .
نحن مصابون بعقدة النسيان ، والاستمتاع بالشعارات الخدّاعة ، والصور المزيّفة ، وتكرار الأخطاء والتجارب المريرة ، والوقوع في المصائد والمصائب . لا نريد أن نغادر مواقعنا القديمة وحاضرنا البائس ، أو نفتح نوافذ للهواء النقيّ النظيف . نتعلّل بالآمال ، ونتعلّق بالخيال . نهوى اللدغ من جحورنا ألف مرة ولا نتعظ ، برغم أن المثل يقول : ( العاقل من اتعظ بغيره ) .
التجارب السابقة تثبت أن المجالس المحلية في هذه المحافظات كانت باباً واسعة لتفشي الفساد والإثراء غير المشروع لصالح أعضائها الذين انشغلوا بتكديس الثروات وتبديد المال العام مع حواشيهم ، ولا علاقة لهم بالناس وهمومهم . وأن هذه المجالس كانت جزءاً من بلد غارق في فساده . ولا يحتاج المواطن بعد اليوم إلى جردة حساب ، أو من يشرح له حجم هذا الفساد ورموزه ، فقد سقطت جميع أوراق التين ، والحقيقة لم تبق شجرة ، ولا جذور ، ولا أوراق ، ولا تين .
لم يكن المواطن ليحلم بانجاز بيت لكل عائلة . أو أن يخرج من فقره المدقع . أو تهبط عليه مائدة من السماء فتحلّ جميع مشاكله . لم يبالغ في طموحاته بأكثر من ماء صالح للشرب ، وبضعة أمبيرات من الكهرباء ، وتعبيد طريق موحل في الشتاء ، وبناء مدرسة ، وصالات تصلح لعمليات بشرية . هل هذا كثير ؟.
ولكي لا يلوم الناس أنفسهم بلدغة جديدة من ثعابين جدد ، أنصحهم أن يستمتعوا في يوم إجازة الانتخابات بنوم طويل ، خير لهم من الانقسام حول صناديق الاقتراع وقوائم المرشحين ، ثم عضّ أصابع الندم ، ولات ساعة مندم .
فهل بلغت ؟ اللهم اسمع واشهد .
مقالات اخرى للكاتب