لستُ من صنف الأوادم التي تعشق الشاشة الصغيرة ، مثل مدمن معطوب كبده ، وانزرعتْ قدّامه ، كأس عرقٍ سمينة ، لكنَّ قوة الإعلان هي التي سحلتني كي أزرع مؤخرتي فوق كرسي الإنتظار . ثمة برنامج ، تسميه الأفرنجة المستجدة " عرب آيدول " وأحسبُ وحسبتي ليس بإثمٍ ، أنَّ تعريبه وفق مدرسة قياس البصرة وما حولها هو " محبوب العرب "
شتلتُ عيناي بالشاشة ، على مدى جمعتين وسبتين ، ونطرتُ الثالثتين بشوق كاسر ، وكانت متعتي تتناهشها مسألتان ، الأولى هي أنني غالباً ما كنت أستمتع بأصوات شابة تعيد قراءة وصقل وتلاوة وتجويد أغاني الزمان الجميل ، المنداحة فوق حناجر أم كلثوم وعبد الحليم وفيروز وعبد الوهاب وناظم الغزالي ووديع الصافي وأسمهان وليلى مراد وصباح فخري ووردة الجزائرية ونجاة وشادية ، أما الثانية فهي انغماسي القوي في الجانب الدرامي من البرنامج ، الذي صارت تنمو قصصه وحكاياته وقفشاته ونكاته ، الثقيلة منها والمهضومة ، حتى كادت تنافس الهدف الأول للبرنامج ، الذي هو اكتشاف أصوات عبقرية جديدة ، وضخّها صوب مشهد الغناء والتطريب والسلطنة والتأمّل ، بعد أن صارت حنجرة المغني الحديث ، تنام في عضلاته وقفزاته فوق دكة المسرح ، وصوت المغنية الجديدة ، يلبط ويسيل مثل سمكة بنّية زلقة ، في مفتتح الساقية المشعة السائرة بين النهدين الفائرين ، ولا بأس من ظهور السرّة وتدويرة الفخذ ، وتزغيبة الأبط ، ونمو الشفتين مثل حبة كرز أحمر .عراقياً ، كنت أظنّ أن رحلة خميسية مبروكة لبرنامج عرب آيدول ، إلى مدينة الثورة شرقي بغداد العباسية ، سينتج عنها اكتشاف مائة صوت وصوت فذّ ، في حفلة عرس واحدة ، لكن شاشة الغناء والطرب العراقي ، يبدو أنها سائرة إلى الإنقراض ، بسبب هوى عمائم ولحىً كذّابة ، ألغت مهرجان بابل الدولي الكبير ، بعد فتوى تحريم الغناء والرقص الإستعراضي على دكته العملاقة ، في نفس الوقت الذي أنتجت فيه هذه العمائم الدجّالة المنافقة ، واحدة من أفسد وأردأ الدول القائمة فوق الأرض . ألعنصر النسوي في باب غناء أهل الرافدين ، يكاد ينقرض ، وربما استثنينا من المشهد ، ظهور المغنية العراقية الكردية برواس ، وحتى هذا الظهور المريح الذي انرشّت على محيطه ، أعطار وروائح السياسة ، لم يكن حضوراً منتظراً قوياً بباب المنافسة ، حيث المغاربيات والشاميات والفرعونيات ، يجدن الغناء والتطريب ، على ألف سلّمٍ وسلّم.
في السياسة ، قدّمت المطربة أحلام ، إبنة بلاد ما بين النهرين برواس الحلوة ، على أنها قادمة من أرض الجنائن المعلقة ، ثم علا الحسّ القومي لأحلام ، فأقترحت على برواس أن تقدم نفسها على أنها من دولة العراق ، وكردستان جزء لا يتجزأ منها ، وكررت قولتها القوية هذه أربع مرات ، لكن الأمر لم يعجب المغني راغب علامة ، المسوّر اليوم بشائعة الوزير والوزارة ، فنطّ من شروده المؤقت ، واتهم أحلام ، المطربة المشاكسة المقبولة للعين وللقلب وللأذن ، بتهمة إلقائها محاضرة سياسية فائضة . في باب كردستان ، وفي معمعة حضورها ، وخلطة السياسة بالفن وربما ب " الإقتصاد " طلبت المغنية الحلوة المغناج المريحة للنظر نانسي عجرم ، طلبت واشتهتْ من برواس الطيبة التلقائية كما تلميذة إبتدائية ، أن تعلّمها اللغة الكردية ، من أجل أن تقوم " ننّوسة " بإنتاج اغنية كردية تسيح من فوق حنجرتها المشعة حتى الآن . حزنتُ أيضاً – مع خلطة فرح ملتبسة – على خروج مزمار البرنامج ، الأسمر البصراوي ، أبو الصوت الراكز العريض الشاسع المساحة والتحرير والتسليم والتطريب ، أسامة الحلّاق . أذهلني صوت هذا الغزال المغزول ، وتلوينات حنجرته الطرية ، وإن كنت تمنيت عليه ، أن يصعد من البصرة شمالاً ، كي يصل إلى خريطة أمّ البلاد ، بغداد العباسية ، دارة المقامات والبستات المذهلة ، لكنه على ما بدا لي ولأذني ذات الصيوان الشاسع ، قد فضّل النزول جنوباً ، حتى كاد المنصت إليه ، يتوهم بأن الفتى المغني المطرب ، إنما هو واحد من أهل الكويت ، وأغنيته كانت مشتقة من منظر البحر وغنائه وسامعيه ، من صيادي اللؤلؤ والمرجان وأصداف الحظ والنعمة والحلم ، وانتقالته الأخيرة التي زرعته بباب اليمن السعيد والمكلّا وهوى زنجبار ، فصار العراق والبصرة ، أثراً باهتاً ، ووشماً فائضاً فوق ظهره .
شخصياً ، راهنت منذ البدء ، وبقيت حتى الآن ، قاعداً مستمتعاً منصتاً لذلك الصوت الشاميّ الأوبرالي المعجز ، صوت فرح الدمشقية ، ولأنّ قياسات البرنامج ، كانت تهاوت منذ حلقته الحاسمة الثانية الصافية المصفية ، الغربال المغربلة ، وتم وضع مصائر المغنين ، في حلوق الهواتف ورنّاتها وعكرة بوصلاتها ، فلقد وضعت كفّي على قلبي ، وخفتُ على مشوار فرح الجميلة ، حيث التلفونات في دمشق وضواحيها الآن ، منصوبة ومؤقتة على رنة مدفع كاسر ، وترنيمة طفل مفتقدة ، وشهقة أمّ مرتعبة . بقي من المشهد ، الناقد أبو عيون الصقور الصائدة ، حسن الشافعي . حسن في دورة البرنامج هذه ، لا يشبه حسن العام الفائت . لقد بدا الفتى الفرعوني ، حميماً رحيماً مسالماً ، بنظّارة سميكة خلّصت وجهه من بعض غلظة ، وعظيم جدّية . أزيد ظنّي هو أنَّ الأمر يتصل روحياً ، بخاتم الزواج وتداعياته التي رسمت على وجه حسن ، قناعاً أبوياً ، يسرّ الناظرين والمتسابقين والمتسابقات ، ويجعلهم ينامون ليلهم الشحيح ، يغنّون الياليل والياويل والياعين ، وأرجلهم طامسة راسية في سطل ماء بارد عملاق .
مقالات اخرى للكاتب