بعد هبوط اسهمه في البورصة السياسية، يمر السيد المالكي هذه الايام باصعب فترة من حياته السياسية، فقد تصدعت الثقة التي منحها العراقيون له في الانتخابات الاخيرة، اذ لم تفلح محاولاته في التأسيس للولاية الثالثة. ولم يستطع اختراق الجدار البرلماني الشيعي، من اجل تحقيق الاغلبية، ولا حتى تحسين صورته امام ممثلي المكونات الاخرى، فبدا انتخابيا وكأنه في موقع الهزيمة اكثر منه في موقع المنتصر.
وفي هذه الايام التي تخيم فيها تداعيات سقوط الموصل على عقلية وذاكرة الفرد العراقي، وناخبي السيد المالكي على وجه الخصوص، يكتشف الرجل نفسه بانه قد يفقد ليس فقط شرعيته الانتخابية في الاسابيع القادمة، بل اكتشف نفسه عاريا، بلا "ثياب الامبراطور" التي اوهموه بها.
من هنا فان تهديده "الخجول" لاربيل ينبع من حاجته لاعادة الهيبة "المهزوزة"، ومثل كل السياسيين، ليس في جعبته اجراء اسرع وانجح من التصريحات النارية ليعيد بها توازنه في الاعلام الرسمي، واذا كانت التهديدات النارية التي سبق واطلقها بـ "سحق داعش خلال سويعات" عند سقوط الموصل اصبحت مثارا للسخرية، وحديثا للتندر، واستهلك معظم شعاراتها، فان تصعيد المواجهة "عسكريا" مع اربيل مازال يحمل بعضا من الاثارة الاعلامية.
الا ان اربيل، التي تمر في اقوى فتراتها، عسكريا وروحيا، وحتى دبلوماسيا، في المقابل، لا تبدو عليها امارات الضعف لتتلقى هذا التهديد على محمل الجد، والسيد المالكي يعي جيدا ان محاولة اخضاعها عن طريق التصريحات النارية الحماسية سوف ترتد عليه على شكل تعليقات ساخرة تجتاح الفيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي الاخرى، ولن يحصد بها سوى المزيد من الفشل.
لذلك جاء تهديد السيد المالكي خجولا مترددا لم يقوى فيه على ذكر اسم خصمه اللدود "البارزاني" على الاقل، ولم تسعفه عضلاته الضامرة بالتلويح بالعصا تجاه الشمال، واكتفى بصياغة مترددة في جمل متباعدة، دون ذكر الخيار العسكري بالاسم.
قال: "الحكومة لن تسكت على تحول اربيل كمقر لداعش"، ثم تطرق الى ان القوات سوف تدخل في محافظات الانبار، صلاح الدين، ديالى ونينوى، واستكمل جملته بـ "والمحافظات الاخرى" تاركا الحرية لمعجبيه بتفسيرها بانها محافظات اقليم كردستان، وللاخرين بانه لا تعنيها.
وهذا الدوران بين الكلمات في لغة الخطاب السياسي، قد يكون مؤثرا وناجحا في اوقات السلم، ولكن وعلى ضوء ما تشهده البلاد من حرب داخلية، فانه لا يترجم سوى بالضعف والتردد في اطلاق التصريحات الصارخة المباشرة، خوفا من ان تتحول حسب ما توصف في الامثال العراقية، بانها اكبر من الفم.
نعم، لقد حقق السيد المالكي بهذا التهديد نقاط ايجابية تحسب له. اولا حقق تقدما طفيفا في اعادة الثقة بينه وبين البعض من اتباعه المتعطشين للمزيد من المواقف الصارمة بعد ان اتعبهم هذا اللعب الهادئ بالاعصاب المتوترة.
وثانيا يحاول احراج القوى والشخصيات المنافسة له داخل البيت الشيعي، وجرهم خلفه، وان يتبعوه فليس لقناعة منهم، بل من اجل تفويت الفرصة على محاولات اتهامهم بالخيانة.
وثالثا وجه رسالة اقليمية، الى الدول المعارضة لمشروع استقلال كردستان، وعلى رأسهم ايران، بانه مستعد للمواجهة مع الاقليم، ولعب دور الذراع الداخلي ضد هذه القوة النفطية الناشئة، واستعداده لاجهاض تجربة الاقليم التي ليس لها صديق في المنطقة.
ورابعا تمرير رسالة من تحت الطاولة الى الراعي الامريكي بانه مايزال يمتلك المزيد من الاوراق، وانه على استعداد للدخول في كل اوجه المجابهات، اذا قرر الامريكان الاعتماد علية للسنين الاربع القادمة.
الا انه، ورغم كل ذلك اخفق في استعادة صورة القائد العسكري الحازم ورجل الدولة "المهيوب" في الشارع العراقي، لأنه لم يستطع ان يمحو من ذاكرة العراقيين، وهو يهدد الاقليم القوي، وضعه العسكري امام داعش الضعيفة.
مقالات اخرى للكاتب