مدخل
=======
تنتج السيطرة الاستخبارية في الغالب بعاملين هما الاحتلال و الجوار الجغرافي , فالاحتلال العسكري يسعى لتكوين شبكات نفوذ تتيح له استمرارية السيطرة في فترة مابعد الانسحاب , ليؤسس لفترة سيطرة استخبارية طويلة لفترة مابعد الاحتلال , والجوار الجغرافي يشجع الدوائر الاستخبارية على بسط نفوذها على البلد الاضعف.
==========
مابعد الاحتلال
==========
تكون مرحلة السيطرة الاستخبارية , على بلد ما , في مرحلة ما بعد الاحتلال على الغالب , وتسمى ايضا بالاحتلال الجديد, وهو امر جرى انتعاشه في العالم بعد الحرب العالمية الثانية.
فلم تعد الجيوش الجرارة العلنية تنسحب من بلد احتلته ببساطة دون ان تترك ورائها جيشاً سرياً من العملاء تحت مختلف المسميات الفكرية والثقافية والدينية والسياسية وغيرها من الواجهات , وهو نوع من السيطرة غير المكلفة اذا ماقورنت بكلفة الحرب والجيوش الجرارة .
فاسرائيل , على سبيل المثال , تعلم عن كل حركة في غزة وتستطيع ان تقرر متى تقتل او تعالج اي هدف, وهذا النوع من السيطرة هي اقل كلفة من الاحتلال المباشر, وبالطبع فان نموذج غزة يتجسد في الاحتلال السابق والجوار الجغرافي معاً , وهو الحال ذاته في الكثير من مناطق العالم كقبرص التركية وحال العراق عقب الانسحاب الامريكي.
وغالبا ما يمتد هذا النوع من السيطرة الاستخبارية في جميع جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الدينية , فبعد كل احتلال يستغل المحتل ايجاد روابط متعددة مع المجتمع المحتل ويمد جذوره بقوة في مراكز القوة والتاثير السياسي والشعبي والاقتصادي ويترك بصمات وينظم لمرحلة مابعد الخروج من خلال انتاج شبكات قوية وكثيرة من اللوبيات والعمل السري لتحل محل الجيوش عند خروجها .
====================
مستويات النفوذ الاستخباري
====================
تمر السيطرة الاستخبارية بعدة مراحل من النفوذ , تبدأ بالسيطرة وتنتهي بالانكماش , فتكون مراحل ومستويات التاثير الاستخباري هي :
1- السيطرة الاستخبارية :
ان الاحتلال المباشر مكلف ومحرج ويجعل الجيوش المحتلة هدفاً سهلاً للحركات والتنظيمات التي تطالب بخروج الاحتلال , ولكن السيطرة الاستخبارية غير مرئية وغير مكلفة وتعمل بالخفاء ويصعب استهدافها, لذا يجري الاعداد لها , وتستمر هذه الحالة لسنوات وتكون السيطرة مباشرة وقوية
والسيطرة الاستخبارية ليست مختصة بالدول , بل تتعداها الى المنظمات والاحزاب وحتى التنظيمات المسلحة , وحين تتم السيطرة على هذه المجاميع , فانها تصبح بذاتها الادوات الاستخبارية المنفذة لاساليب السيطرة والتأثير .
2- التأثير او النفوذ :
كثيرا مانسمع بان فلان ترشح لمنصب ما في العراق وان الامريكان او غيرهم من الدول لم يوافقوا على تعيينه , وهذا نموذج صارخ عن النفوذ, فبمرور السنين تتحول السيطرة الاستخبارية لتصبح تاثيراً ونفوذاً من خلال الاذرع المحلية , وفي الغالب , ينتج ذلك من خلال الجوار الجغرافي او البعد القومي او الديني ,او ان يتم بعد انسحاب الاحتلال .
فتستغل الاستخبارات البعد القومي او الديني لتبقي على تأثيرها ضمن البلد الهدف , وهذا النوع من التاثير والنفوذ متجسد بوضوح في الحالة العراقية فتاثير كافة دول الجوار هو تأثير ونفوذ قوي ومتعدد ويستخدم جميع ادوات النفوذ القومي او الديني او الجوار الجغرافي .
والنفوذ ليس منتجا او تكنلوجيا تصدر لنا , بل هي مجموعه فعاليات وخطوات استخبارية تترجم العامل السياسي الى نفوذ وسيطرة على الشعوب والدول , وتتخلل هذه الفعاليات حرب نفسية وتثقيف نفسي على التشكيك بالمكتسبات والقناعات وانتاج عقل جمعي جديد وعمليات تجنيد واسعة( وبعض عمليات التجنيد تكون موروثة وعائلية) مع تغيير القناعات وطرح قناعات جديدة وبناء قدوة جديدة وجعلها كهالة لامنافس لها , لدرجة ان الشعب الواقع تحت السيطرة الاستخبارية يصبح اكثر تعلقا بالقدوة من شعب البلد الاصلي لصاحب ذلك النظام والقدوة , اي ان من تجري له عملية غسيل الدماغ يمسي ملكياً باكثر من الملك.
ان التأثير في المجتمعات والسيطرة على عقولها والتأثير في مشاعرها تحتاج الى سياسات خفية ودقيقة تعمل باذرع الاستخبارات ونشر الاخبار والاشاعات ثم التثقيف عليها , فخلال سنوات قليلة استطاع البريطانيون ان يصنعوا لهم هالة لدى العراقيين , فصار يشار الى الذكاء والتخطيط الدقيق الشيطاني في مجتمعنا , باستسلام , بعبارة (شغل ابو ناجي) وهو امر لم يستطع العثمانيون ان يفعلوه في عقول العراقيين رغم احتلال اربعة قرون.
ان آليات السيطرة والنفوذ تكمن في التاثير على رجال السياسة والاحزاب والقاده العسكريين ورجال الاعمال والتجار وشيوخ العشائر والمواطنين , وكذلك السيطرةعلى سوق المال و قطاع النفط و المؤسسات الدينية واوساط المثقفين والجامعات , ويتم ذلك من خلال تنظيم شبكات واسعة من الواجهات كجمعيات الصداقة والاعلام وشراء الاقلام والتبادل الثقافي والزيارات والوفود ومنح الجنسية والحماية واسقاط القدوة الوطنية واثارة المجتمع وعقد المعاهدات المتنوعة التي تربط اقتصاد البلد بمجموعة من النشاطات الاقتصادية بالاضافة الى السيطرة على شبكات الاتصال , فهو تنفيذ لغزو اقتصادي وثقافي وسياسي كامل ينتج عنه اخضاع البلد لمجموعة معايير تسيطر عليها خيوط الاستخبارات , فالنفوذ يشبه , الى حد كبير , دورحشرة الارضة فهي تعيش في بيت الانسان وتعتمد السرية وتأكل كل شيء ولكن لايلاحظها احد بسهولة .
وهو امر كثيرا مايستشعره المحللون السياسيون في حاله التأثير الروسي في الجمهوريات السابقة او التأثير الامريكي في كندا او التأثير الفرنسي في افريقيا , او التأثير الصيني في جنوب شرق اسيا, او التأثير الهندي في الباكستان وبنغلاديش وكشمير او بريطانيا في اسكتلندا وايرلندا,او روسيا في الشيشان , او السعودية في دول الخليج , وغيرهم كثير.
3- التوازن :
المستوى الثالث من مستويات انخفاض السيطرة الاستخبارية هو التوازن , اي يتراجع النفوذ الى توازن في الاداء الدبلوماسي والاستخباري , فتفقد الدول تاثيرها في ذلك البلد وقد تتحول لبلد حليف او صديق او قد يتطور الى منافس او خصم, كحال التاثير الامريكي في ايران قبل الثوره حيث خسرت التأثير ليتحول الى عداء اثر سقوط الشاه.
والتوازن هو المستوى المنطقي والمعقول من العمل الاستخباري في ارض البلد المستهدف او الاقليم المستهدف وهو الدور الطبيعي للجهد الخارجي لسياسات الدول الذي ينفذه ذراع الاستخبارات .
4- التراجع و الانكماش:
ويمثل ادنى حالات التأثير الاستخباري , ويتم عندما تحدث انقلابات او ثورات او تصاعد دور دولة محل اخرى , فمثلاً تراجع الدور الانكليزي في الشرق الاوسط بعد تصاعد الدور الامريكي اثر الحرب العالمية الثانية ادى الى تراجع النفوذ الاستخباري البريطاني الى ادنى مستوياته .
====================
ساحات تجنيد المصادر
====================
هناك ثلاث ساحات تجنيد للمصادر في العمل الاستخباري الخارجي
فتكون الاولوية في تجنيد وتدريب المصادر بكل انواعها في الدولة اي في مركزها وتسمى ساحة تجنيد مركزية , وطبعا لها الاولوية والافضلية.
اما الساحة البديلة فهي المفضلة للدول الكبرى والاجهزة المحترفة, اي دولة ثانية يكون لها فيها سيطرة او تأثير فتكون بمثابة المركز الميداني الذي يجري فيه التجنيد والتدريب , فالاردن , مثلاً , هي الساحة البديلة للاستخبارات الامريكية في العالم العربي ولبنان هي الساحة البديلة للتجنيد الاسرائيلي .
او ان تختار الاستخبارات ساحة ثالثة وهي بلد العميل , وغالبا ماتكون في البلد المستهدف اي داخل البلد المستهدف وهو امر يتم بنجاح في البلد المسيطر عليه استخبارياً لاسيما اثناء الاحتلال.
==================
صراع النفوذ في العراق
==================
في حال وقوع صراع بين دولتين على مركز نفوذ في بلد ما , فانهما تسعيان للتاثير على نفوذ الاخر ضمن مساحة البلد المستهدف كحال الصراع الايراني السعودي في العراق او الصراع الامريكي الايراني في العراق, ويحاول الجميع ان يصل الى السيطره الاستخبارية , وهي المطلوبة في حرب الاستخبارات او ماتسمى بالحرب الباردة.
وفي حالة العراق هنالك مؤثرات كبيرة تؤثر على تسهيل ساحات النفوذ لدول الجوار والدول الكبرى , فضعف الامن الوطني وضعف المواطنة والوطنية تؤدي الى ان تصبح الولاءآت قومية ودينية واقتصادية وسياسية , وتتصارع الارادات لبسط النفوذ ومنع نفوذ الاخر وبالتالي يصبح البلد عباره عن العوبة و ساحة حرب .
يضاف لذلك عدم قدرة النظام السياسي العراقي من تحديد البوصلة والاتجاه والهوية السياسية للبلد مما يجعله فريسة اسهل , وبالنتيجة تكون الخسارة للجميع والتراجع للجميع , وتصبح السفارات هي المتحكمة بالبلد , وعلى كل من يريد ان يحصل على منصب او مكسب يذهب لاحداها , وبالطبع فإن كل جهة تتهم الاخرى بالعمالة, والجميع هم عملاء تحت مسميات مختلفة .
ويصل الامر لدرجة من المرارة حين لايشعر احد بوخز الضمير وهو يتفاخر بحفظ مصالح دولة اخرى داخل الوطن , لذا نلاحظ ان السلطة السياسية في العراق قد ركنت مكافحة التجسس واصبح مسكوتاً عنه , لانه يشمل الجميع ويورط الجميع .
ان اغلب اعمال الاستخبارات والنفوذ وجمع المعلومات والتأثير وايجاد لوبيات ضغط واذرع اقتصادية وثقافية واعلامية واجتماعية وسياسية تتيسّر بعناصر وشخوص من مواطني بلدنا المستهدف ,وقد تجذرت عملية النفوذ بتراكم زمني في المجتمع والشعب العراقي واصبحت جزءاً من الحياة , وقد ذكرنا في احد كتبنا المنشورة (ماقبل المعركة ) ان العراق تجاوز مرحله الطابور الخامس وهو الان في مستوى الطابور السادس , اي ان العمل لجهة خارجية اصبح ضمن الثقافة السياسية وعُرفاً سياسياً مصوناً من المحاسبة القانونية.
========
الخلاصة
========
ان من ابرز واجبات الاستخبارات هي ترجمة القوة والسلطة السياسية الى واقع في البلدان المستهدفة, وهو امر ينجح في احتلال البلد المستهدف او في الجوار الجغرافي لبلد تمزقه الاهواء او الانهيارات الامنية او الاقتصادية .
فالاستخبارات هي البديل الفعال للجيوش الجرارة في ضمان النفوذ والتأثير على البلدان , وهي تستطيع ان تجعل الكثير من البلدان بحكامها واقتصادها , العوبة في ايديها وكل هذا يتم بطريقة ناعمة هي السيطرة الاستخبارية , وهو امر بات واضحاً في العراق والكثير من دول المنطقة كلما اقتربت مواسم الانتخابات ومواسم تشكيل الحكومات .
ولاخروج من ربقة السيطرة الاستخبارية للقوى الاجنبية والاقليمية الا بالوعي ونبذ كل مامن شأنه تغييب الوعي الوطني , والله الموفق.
مقالات اخرى للكاتب