بالإضافة الى حظر تشكيل وإنشاء المحاكم الاستثنائية أو الخاصة بأي شكل من الأشكال،فقد أكد الدستور العراقي اسوة بالعديد من الدساتير التي تلتزم بها دول العالم بحظر انتماء القاضي أو عضو الادعاء العام الى أي حزب من الأحزاب العاملة المجازة منها أو غير المجازة،المتحالفة مع السلطة او المتعارضة معها،كما حظر الدستور على القضاة وأعضاء الادعاء العام الانتماء الى المنظمات السياسية أو العمل في أي نشاط سياسي .
أن ينأى القاضي وعضو الادعاء العام عن العمل في الشأن السياسي أو الانحياز الى جهة سياسية يجعله بعيدا عن التأثيرات والالتزامات التي يفرضها عليه الحزب أو المنظمة،ويجعله منحازا بعيدا عن مبادئ العدالة وخرقا لمبادئ السلوك القضائي .
ولعل قضاة مصر انموذجا من الالتزام بالسلوك والمبادئ القضائية،وهذا الالتزام نفسه كان عمودا من اعمدة القضاء العراقي،وزاده تحصينا ومناعة،بأن لم يتوجه الدكتاتور صدام حسين الى تطويع القضاة وجعلهم يرضخون لرغباته ومواقفه السياسية،ما جعله يشكل محاكم بعيدة عن السلوك والمبادئ القضائية ومن غير القضاة،ليضفي عليها اسم المحكمة شكليا وصوريا بعيدا عن الموضوعية والعدالة .
وحين تعرضت جمهورية مصر العربية لسطوة وسيطرة مجموعة الإخوان،المعروفة بتوجهاتها اليمينية والرجعية،رضخ عدد من القضاة لمناصرة توجهات الإخوان التي تتبرقع بلبوس الدين الإسلامي اسوة بالعديد من الفصائل السياسية التي تتخذ من الدين شعارا وستارا،وبالرغم من العدد القليل من بين هذا الكم الهائل من القضاة المتميزين بشجاعتهم ومواقفهم الملتزمة بتطبيق أدق معايير العدالة والحق،وهم من الذين وقفوا بوجه السلطة الإخوانية حين ارادت تطويع القوانين لصالح سلطتها فبرز دور نادي قضاة مصر وهو يتحداهم بنصوص القوانين ومعايير العدالة مما اسهم بشكل اساسي ورئيسي في سقوط سلطتهم وانتصار سلطة الشعب .
وحين جرى صدور بيان (( رابعة العدوية )) تقدم احد المستشارين ليقوم بتلاوته من داخل مقر الساحة،وقام عدد آخر منهم بالتحريض على توقيع البيان المذكور،وعقدوا في سبيل ذلك اجتماعا في احد المراكب النهرية المتوقفة في القاهرة وسط نهر النيل بمنطقة المعادي،فوقعوا تحت طائل تحديهم للدستور ولمبادئ العمل القضائي،مما اوجب على مجلس التأديب والصلاحية القضائية ان يتم أجراء التحقيق الأصولي معهم،وبعد أن كان قاضي التحقيق قد استكمل الإجراءات التحقيقية،وقرر إحالة عدد منهم من مختلف الدرجات القضائية مطالبا بعزلهم عن القضاء .
وقال أحمد شوقي في قصيدة له :
مصر بنت لقضائها
ركنا على النجم أرتفع
فيه أحتمى استقلالها
وبه تحصن وامتنع
وحين يرغب القاضي في العمل بالمجال السياسي لايمكنه الجمع بين عمله في القضاء وبين عمله والتزامه في العمل السياسي،وعليه ان يتفرغ لعمله القضائي،وأن يلتزم فعلا بجميع ماورد بمدونة السلوك القضائي،وأن يبتعد عن كل ما يمس حيادتيه أو يخرق الأعراف والتقاليد القضائية التي تشكل عمودا من أعمدة القضاء .
وبعد ان وضع الدستور العراقي التزاما بنظرية فصل السلطات،وجعل السلطة القضائية عمودا لهذا المثلث المتشكل من السلطتين التشريعية والتنفيذية،فيشعر القضاة واعضاء الادعاء العام حاجتهم الماسة لمعايير ترتقي بمستوى الطموح لتفعيل هذه السلطة ودعمها وتعزيز المعايير التي تعلو بمستوى الاداء والثقة والالتزام بالقضاء بشكل عام ،ولهذا يتعين على القاضي وعضو الادعاء العام أن يعزز هذه الاستقلالية بذاته أولا،وأن يترجم عمليا نص أن لا سلطان على القاضي غير القانون .
كما ان حظر انتماء القضاة والادعاء العام للأحزاب السياسية والجمعيات يجنبهم الخوض في افكارها ومعارضيها ويبعدهم عن التجرد وقول الفصل في الوقائع المعروضة امامه، ولايمكن الانسجام بين القواعد القضائية والقانونية وبين التحليل والوقائع السياسية .
لذا فأن منهجا جديدا ينبغي ان يتشارك به جميع العاملين في المجال القضائي نحو الالتزام بالقيم الثابتة والمواقف الشجاعة التي وقفها السلف،وان نكرر تلك المواقف والقرارات التي نتفاخر بالحديث عنها وسردها لاسماء من قضاة العراق حافظوا على قدسية القضاء واحترموا القوانين وحافظوا على حياديتهم وابتعادهم عن السياسية،وتدفعنا الظروف التي يمر بها العراق اليوم الى التمسك بالاستقلالية والحيادية والابتعاد عن التخندق السياسي،والتفرغ لتطوير العمل القضائي ودعم استقلالية السلطة القضائية،بالإضافة الى حاجتنا الماسة للمواقف الشجاعة في سبيل حماية الدستور والقانون .
مقالات اخرى للكاتب