ترقصُ طرباً جمهورية المانيا في هذه الأيام بذكرى هدمِ او هد جدار برلين الشهير في التاسع من نوفمبر- تشرين ثاني 1989 , وتقام الآن احتفالاتٌ مبهرة بهذه المناسبة التي اعادت توحيد الألمان بعدما قسّمها وشَطرها ذلك الجدار الى دولتين منفصلتين . الجديرُ بالذكرِ أنَّ جدار برلين هذا كان طوله مائة وستّة كم وبلغت تكلفة بنائه مائة وخمسون مليون دولار آنذاك , وكانت فترة الأنفتاح التي بدأها غورباتشوف آنذاك والتي جرى الأصطلاح عليها ب " – غلاسنوست – قد عجّلت وشجّعت الرئيس الامريكي السابق " رونالد ريغان " للقدوم عند جدار برلين موجّهاً النداء والدعوة الى غورباتشوف للموافقة على هدم جدار برلين , وكانت حكومة المانيا الشرقية قد شعرت بالأحراج الكبير اثرَ اندفاع مواطنيها لهدم الجدار ورضخت للأمر الواقع وكانَ ما كانْ .. النقطة الستراتيجية في كلّ ذلك اي بعد عودة المانيا كدولة موحدة تسمى الآن " المانيا الاتحادية " وبعد ان انحلّت جمهورية المانيا الشرقية التي كانت تتبنى الأيديولوجية الشيوعية كفكر وعقيدة وممارسة وكان شعبها معبّأً بالنظرية الماركسية المعادية للغرب , فلم تكن هنالك عملية لكافة المسؤولين الألمان الشرقيين كما يجري في العراق , ولم يكن هنالك بالطبع " قانونُ مسائلةٍ وعداله " بل تمّ استيعاب كلّ الساسة والوزراء وقادة الجيش وضباطه ورؤساء المؤسسات الحكومية والمدراء وصولاً لما هو ادنى , وتمّ إلحاقهم بأجهزة الدولة الجديدة " المانيا الأتحادية " , وبالطبع لم تكن هنالك تصفيات واغتيالات ومطاردة او اية اعمال انتقامية من شيوعيي المانيا الشرقية , بل تألّقت روح المواطنة الألمانية بأجملِ صورها ...
وبقدر تعلّق الأمرِ بالعراق , وعلاقته السياسية والتقنية بجدار برلين , فالمصيبةُ اعظمُ من الأعظم .!! فمسألة الكتل او الحواجز الكونكريتية والأسمنتية وبأحجامها وارتفاعاتها وخصوصاً ومَنْ ذا الذي يستفيدُ منها , فأنها تعادلُ الفُ جدارٍ وجدارْ كجِدار برلين .! , إنَّ قصّة هذه الحواجز الكونكريتية والتي تسمى باللهجةِ الدارجة ب : < الصَبّات > والمأخوذه عن عملية صبّ الأسمنت الطري حتى يتصلّب والمستخدمة في البناء , فكانت ان إبتدأتْ هذه القصة وبفصولها التراجيدية والدرامية المؤلمة والمخزيه " والتي لا يُرادُ لها ان تنتهي " , حيث في الدورة الأولى من حُكم نوري المالكي " وحين كان يقوم بزيارة رسمية الى مصر " فقد صرّح الجنرال " بترايوس " القائد الأعلى للقوات الأمريكية في العراق آنذاك بأنه ينوي تشييدَ جدارٍ حول منطقة الأعظمية وعزلها عن مناطق بغداد , فأعلن المالكي من القاهرة عن رفضه واعتراضه على بناء ذلك الجدار " فهذا حدثٌ لمْ يشهده العراق في تأريخه ", ولكن ما ان عاد المالكي الى بغداد بعد يومين من زيارته حتى بدا انه انصاع لأوامر بترايوس بالكاملِ والمطلق , والأنكى انه وكأنه صار يزايدُ على بترايوس .! فبدأ بالشروع في حملةٍ اكثر واشد من " SUPER STRATEGY " في تشييدِ وبناءِ مئات الآلاف المؤلفة من القطع الأسمنتية وليس في عزلِ منطقةٍ سكنيةٍ عن غيرها فحسب , وإنما اغلق معظم الطرق الفرعية في المنطقة السكنية الواحدة بهذه الكتل المشابهة للجدران , والتي جعلت المواطن يدخل او يخرج من منطقته بسيارته بمشقّةٍ بالغة وكأنه يمرُّ ويجتازُ حواجزاً من " ZIG ZAG " او يصل الى بيته عبر الخطوط المتعرّجه , وكلّما مرّ يومٌ من حكم المالكي طيلة الثماني سنوات لتي استمر فيها فأنّ الأعداد الأسطورية لهذه الكتل الكونكريتية كانت تزداد بتناسبٍ طردي , ومن اليقين القاطع أنّ ايّ امرءٍ خارج العراق لايستطيع تصوّر حالة او منظر هذه الحواجز الأسمنتية مهما بلغت سعة خياله او سعة خيالِ رسّامٍ او معماريٍ او نحّات ..! والى ذلك فأنّ الضباط الصغار المسؤولين عن ادارة كلّ حيٍّ سكنيٍّ فأنهم يمتلكون الصلاحيات المطلقة لغلق ايّ طريقٍ او طريقٍ فرعيٍّ متبقٍّ في ايٍّ من الأحياء السكنية بهذه الحواجز المتكتّله والتي بعضها لاتسمح إلاّ بمرورِ شخصٍ واحدٍ فقط لا غير.! , والى ذلك ايضاً فمن الصعوبةِ لنا معرفة المجموع الكلّي لأعداد هذه الحواجز والكتل الأسمنتية , ولربما حتى الحكومة العراقية لاتمتلك مثل هذا الرقم .! , لكنَّ شخصا واحدا هو الذي يعرف هذا الرقم وهوابن احد اكبر المسؤولين في الدولة .! , هذا وأنّ الكتلة الكونكريتية الواحدة ذات ارتفاعِ مترين تبلغ كلفة انتاجها اكثر من نصف مليون دينار بكثير , أمّا الحجم الأكبر منها فأنّ سعرها يناهز المليون دينار عراقي , واذا ما تصوّرنا " كحدٍّ ادنى " أنّ العدد او المجموع التقريبي لهذه الكتل الأسمنتية التي تغطّي محافظات واقضية ونواحي العراق ومعها ايضا طُرقٌ وشوارعٌ بالغة الطول , فأنّ هذا المجموع يبلغ مئات الملايين من هذه القطع او الحواجز , أمّا مجموع تكاليفها فأنها يقيناً تعادل ميزانيات عدة دول .! وهكذا تُصرف اموال الدولة او اموال الشعب العراقي بأسم الديمقراطية وبأسم الدين وايضاً بأسم الأمن القومي ! والذي جعل هذه الجدران الأسمنتية الشامخة تضاعف بأضعافٍ مضاعفة من حجم العمليات التفجيرية والأرهابية , ويا ليتها حدّت ولو قليلاً من نفوذ داعش ...
إنَّ سور الصين العظيم + جدارُ برلين هذا + حاجز بارليف + خط دفاع ماجينو + مجموع السدود المنتشرة في دول العالم , ويضاف لهم خط السكّه الحديدية الممتد من الموصل الى البصرة , فأنهم جميعا يقفون بأنحناءٍ وخجل " من ناحية الطول " اذا ما جرى اصطفاف الكتل الكونكريتية العراقية بجانب بعضها .! وكذلك في كمية الأسمنت المستخدمة فيهم .! , وهنا , اذا ما قال قائلٌ او تساءلَ سائلٌ بأنّ الألمان تمكّنوا من هدم جدار برلين بعد نحوِ نصفِ قرنٍ على انشائه , فمتى من المُتَصَوّر ان يحتفل العراقيون بهدمِ او رفعِ او ازالةِ هذه الجدران .؟ فأنَّ الأجابةَ وببساطة أنّ على العراقيين ان يرسموا بأيديهم خطوطاً حمراء لأحلامهم وتمنياتهم ولربما لهذا الجيل على الأقل .!!
مقالات اخرى للكاتب