يسير الهوينا وهو يتكئ على أعمدة رواق الشارع الذي يعد سمة من سماته ، وقبل ان يصل مراده. تمعّن جيدا بالرواق علّه يرى احد أصدقاءه او معارفه أو زبائنه. لكنه لم يفلح بذلك. قدم له ولده كرسيه وجلس أمام محله الذي احتفظ بهويته بيع الملابس.
لحظة حديث أولى كانت تجمع صمت السنين وتطلق بكلمة واحدة آه. قالها وهو يسترجع ذاكرة سنين، وكيف كانت يده تلوح بالسلام لهذا الزائر وذاك الضيف والزبون الفلاني وغيرهم من معارف وأصدقاء. حتى هاتفه القديم رغم توقف الخدمة لكنه مازال يحتفظ به وبدفتر أرقام الأصدقاء. الذين غادر بعضهم، وآخر هجر، وثالث هاجر ورابع ظل جليس البيت.
السيدة ام ريام كما عرفت نفسها، لم تستطع ان تخفي غضبها وهي ترى حالة الشارع الرثة، وتراكم الأزبال وضياع هويته. وهي تستذكر زيارتهم العائلية للشارع وقضاء أوقات بغاية السعادة والفائدة. قالت آخر كلمة وهي تجفف دموعها.
الشارع الغريب
المعلم المتقاعد حسن الظفيري البصرة قال: خلال زيارتي للعاصمة بغداد والذهاب الى شارع المتنبي، وقطع الطرق حيث اضطررت للسير عبر شارع يبدو غريبا ومنهكا، ولم أنتبه سوى للمعالم التي تعيد بعض الذكريات إلى شارع منسي تبين فيما بعد انه شارع الرشيد.. مضيفا للأسف الشديد لقد غاب شارع الرشيد ولم يتبق سوى اسمه، الأزبال متراكمة فوضى المحلات والمهن الطارئة على الشارع وهي تقتل تراثه العمراني.
الظفيري تحسّر على ماضي الشارع الذي كان قبلة للزائرين والسوّاح من شتى أرجاء العراق ودول العالم، إذ يمثل الشارع حكاية بغدادية عراقية ارتبطت بتاريخ العراق الحديث وصناعة أحداثه المختلفة.
أبو أمجد من رواد الشارع يسير وهو يشرح تاريخ كل محل وعائديته وكيف تم بيعه أو تأجيره أو الاستيلاء عليه بعد نيسان 2003. في كل متر من الشارع هناك حكاية وتحت هذا الرواق الطويل، سار الملايين عشاق وأحبة وأصدقاء. لم يكن أحد يجرؤ على السير وسط الشارع فقد كان مقدسا. لأن الرصيف منظم ومرتب وفارغ من عرض البضائع التي كانت تزين المحال.
أين رحل الناس؟!
القادم من العمارة الصديق جمال جاسم أمين حيث التقينا مصادفة بين الميدان والحيدرخانة: من دواعي التأمل حقا أن الأمكنة تعمّر أكثر من الناس، يتركون ظلالهم ويرحلون بينما الحجر يمتص الناس جيلا بعد جيل، يوما ليس بالبعيد كانت (الحيدرخانة) تشدني وأنا أعبرها متسربلا بحشد حكايا عن المكان، القصيدة التي ألقاها الرصافي فانطلقت مظاهرة في أعقابها من هذا الجامع. أمين مسترسلا: حسين مردان القادم من بساتين البرتقال إلى ليل (الميدان) وبغاياه، بلند الحيدري، الجواهري، وأخيرا أنا في طريقي الى (حسن عجمي) مثقلا بسلال من وجع الجنوب، كنت أمر مبللا بكل هذا المطر واليوم لا أثر لأحد مما ذكرت، ولا أثر لي على أقل تقدير، أي محوّ هذا الذي امتد إلى معالم المكان، بغداد الليل الساحر تنكفئ على نفسها مثل ذراع لا تجد كتف حبيب تستقر عليه!. أمين يفكر مليا في عطش (شارع النهر) وسكون ضجيج الحيدرخانه، أين رحل الناس؟ آخرهم كان(عبد اللطيف الراشد) سد باب قبره ونام! صائحا على (عقيل علي): يا عقيل لقد فسد الشعر! وانتهى كل شيء! سلاما على بغداد، على رماد المواقد الحزينة، على الليل والشعراء، على حزننا الذي ظل يتسكع دون صديق!
هوية الشارع ورواقه
في ندوة بمجلس صفية السهيل أشار الباحث رفعة عبد الرزاق محمد إلى أهميته التراثية والمعمارية-أعني شارع الرشيد-، وبقائه كأحد أبرز معالم بغداد القديمة ومع تعرضه للعديد من النكبات، غير أن نكبته الأخيرة بإغلاق أقسام مهمة منه، وتحول الكثير من وظائف أبنيته ومنشآته إلى غير ما كان عليه قبل عقود، كانت الأكبر، الباحث بيّن أن أهم ميزات الشارع وجماليته هو الرواق الطويل الذي يعد هوية الشارع، وهو الرواق الذي يحمي المشاة على جانبي الشارع من الشمس والمطر والضجيج، ويعطي الرواق شخصية موحدة لجميع أبنية الشارع. متأسفا على عدم التزام الجهات الحكومية أو الأهلية بنظام الرواق التقليدي لشارع الرشيد في الأبنية التي شيدت في الشارع في العقود التالية.
لجنة التطوير
وكانت أمانة بغداد قد دعت قرابة (12) شركة عالمية إنكليزية وفرنسية وعربية لتطوير و إعمار شارع الرشيد الواصل بين منطقتي الباب المعظم والباب الشرقي من جهة وضفاف نهر دجلة من جهة أخرى وأن الدعوة جاءت بعد النقض بالعقد المبرم بين أمانة بغداد والمكتب المعماري والشركة العراقية لإعادة الإعمار. وتجاوزت كلفت العقد 7 ملايين دولار خلال مدة 9 أشهر من تاريخ سريان البدء بالعقد العام 2009 وعلى الرغم من تجاوز المدة القانونية المحددة لتنفيذ بنود العقد تخلف الطرف الثاني عن الإيفاء بالتزاماته حتى تاريخ فسخ العقد عام 2011 ليتم بعد ذلك تحميل الطرف الأخير الغرامات التأخيرية ومصادرة خطاب الضمان والتأمينات المالية وإعادة إعلان تطوير شارع الرشيد واعماره.
وسبق ذلك الإعلان عن إعمار الشارع ضمن مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013 لكن ذلك لم يحث أيضا، وسبقه تشكيل لجنة لإعمار شارع الرشيد ما بين عامي 2009 و2010 ولم يحدث شيء أيضا. ومع تزايد الوعود بإعمار الشارع وتطويره يزداد الخراب والدمار للشارع مثلما تزداد الفوضى والأزبال والاختناقات المروية.
بهذا الشأن ذكر الباحث رفعة عبد الكريم: اليوم يتجدد الحديث عن إحياء شارع الرشيد إحياءً شاملا، ولا حديث عن إعادة الحياة إليه إلا بإعادة تعمير وتجديد أبنيته التراثية الباقية ورواقه الشهير، من خلال شمولها بقانون الحفاظ على الأبنية الأثرية، المطلّة على الشارع أو التي تبعد عنه بما لا يقل عن 25 مترا، مع تعميرها وتجديدها. مضيفا: إحياء معالم الشارع الرئيسة بشكل استثنائي، وهي أـ العمارات القديمة مثل بيت لنج. ب- البيوت التراثية مثل بيت الخضيري. ج- المقاهي التراثية مثل مقهى حسن عجمي. د- الجوامع القديمة مثل جامع الحيدرخانة. ومنع مرور السيارات منعا باتا وجعله شارعا خاصا بالمشاة والمركبات التراثية. مع بناء بوابات بغدادية لكل أسواق الشارع، ولوحات تعريفية بمحاله وبيوته ومحلاته التراثية وأشهر المرافق الاجتماعية والثقافية.
مشكلة عقيمة
ناهض الشكر مهندس مدني رأى أن حال شارع الرشيد لا يسرّ أحداً الآن، فالخراب يلف به من كلّ الجهات والوعود بتطويره وإعماره جرعات مخدرة فقط. الشكر تخوف من أن تكون هناك أسبابا غير معلنة تقف خلف هذا الأمر، وعسى أن لا تكون طائفية أو سياسية تاريخية وربما لاسم الشارع. ناهيك عن جهل القائمين على ملف بغداد الخدمي والاعماري التطويري بالمحافظة ومجلسها أو أمانة بغداد، خاصة أن تصريحات أمين العاصمة الأخيرة والتي أثارت ردود فعل واستهجان بين السخرية والاستنكار خاصة فيما يتعلق بتقديم الخدمات في العاصمة التي تشكو الإهمال والخراب والتهميش. كان من الأجدى به أن يعمل بصمت ووفق رؤية وتخطيط عمراني. لكن الذي يبدو أن العراق محكوم بنظرية الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب.
مقطع عرضي لوجه العراق
الصديق الحلي مازن المعموري أستاذ جامعي صادفته في شارع المتنبي: لا يمكنني أن أتصور بغداد من دون شارع الرشيد الذي شاخ على عجل، وأغلقت مساراته العوارض الكونكريتية المشوهة، وبقي يئن بمحلات قديمة وأخرى غير مأهولة متداعية تنتظر الهدم. المعموري رأى أن المشكلة الكبرى التي تواجهنا هي أن هذا الشارع ليس مجرد طريق يتسلل عبره المارة من باب المعظم إلى الباب الشرقي. ففيه الروح البغدادية والإرث الحضاري الذي وسم تاريخ بغداد كعاصمة تخص كل عربي من المحيط إلى الخليج لأنها تعني الخلافة الإسلامية حصرا؟ وبالتالي فان أي محو للشارع سيعني موقفا سياسيا قبل كل شيء. وهو ما يحدث فعلا منذ أن تم غلقه وترحيله إلى التقاعد.
صوت الثقافة النابض هذا ما وصف المعموري به شارع المتنبي وهو الشارع الفرعي الذي يصل الرشيد بسوق السراي، كما أنه يحوي مجموعة من الأماكن المهمة التي تخص الإرث الثقافي مثل مقهى الزهاوي وشناشيل أحمد القيماقجي أبو الدكتور احسان القيماقجي ودكان(زبالة) أبو الشربت ومقهى حسن عجمي ومدرسة شماش اليهودية وغيرها من الأماكن المحملة بذاكرة مدينة عريقة كبغداد ولولا الآن لما كان هناك أثراً لشارع الرشيد وتاريخه.
وتطرق المعموري: الحقيقة أن هذا الشارع بهذا الكم الهائل من الإرث الثقافي يمكن إعادة تأهيله ليكون شارعا للثقافة العراقية بما يملك من مؤهلات عمرانية قابلة للترميم وإعادته للتأهيل الحيوي سياحيا، مثل شارع السيدة زينب في القاهرة، كما يمكن تأهيل أماكن للعروض المسرحية والتشكيل والسينما والمكتبات وغيرها من الفعاليات الثقافية التي تتيح للشارع ديمومة البقاء كمكان استراتيجي نابض بالحياة مادام يمتلك ذاكرة مكتنزة لا تقبل المحو رغم كل ما يجري من تغيير ديمغرافي في البلد كله، ليصبح الحلقة الوحيدة التي تربط الماضي بالحاضر وتعيد للمجتمع صورة القلب النابض للمكان العراقي.
أربعة
ارتباط الشارع بالرقم أربعة يثير مفارقة مميزة فطوله يبلغ قرابة أربعة كيلو مترات. وبه أربعة جسور، وأربعة جوامع تاريخية وتراثية، مع أربع قاعات عرض سينمائي سينما ناهيك عن الحافلة التي كانت تمر به رقمها 4، وبه أربعة مقاهي تاريخية. ومنذ نيسان 2003 والى يومنا هذا أعلن أربع مرات بشكل رسمي عن إعمار وتطويره، وأربعة مرات أخرى فشل مشروع إعماره وتطويره؟!.
فاررة
وجه بغداد التاريخي والشاهد على كل تحولاتها التاريخية السياسية والاقتصادية والفنية والثقافية والرياضية، شارع الرشيد شارع الأحداث والمتغيرات، هل بات إعماره وتطويره عقدة سياسية، وهل يعقل أن 13 عام على استلام القوى الإسلامية الحكم بالبلد ولم تعمر طابوقة واحدة بشارع يمثل شريان الحياة البغدادية. هل يعقل أن يعلن أربع مرات عن تطويره وإعماره وترصد مليارات الدنانير وتختفي أو تحول من وزارة إلى أخرى. هل يعقل أن شارعا مثل شارع الرشيد يتحول الى أكوام من الأزبال والأوساخ والمهن التي لا علاقة لها بتاريخ الشارع.
من جهة أخرى لابد من المحافظة على الإرث العمراني لبنايات شارع الرشيد التي صممها أمهر وأفضل المهندسين والمعمارين العراقيين والعالمين، فهذا الإرث يشكل علامة فريدة ومميزة للعمارة البغدادية. من خلال النقوش والحفر على الخشب والشناشيل والرتوش التي تصنع من رواق الشارع علامة فارقة خاصة به.
انه شاهد العراق فلا تقتلوه هكذا.
مقالات اخرى للكاتب