وهكذا، تطورت الحياة في شبه الجزيرة العربية، بعد تطور الحياة في أماكن كتيرة، منها مكة ويثرب والطائف في الحجاز. وكان طبيعي إنه تظهر أمور دينية وثقافية ومعرفية، وتظهر أشكال أدبية جديدة، كان من ضمن الحاجات دي ظهور "الكُهّان"، ومعاهم "سجع الكهان".
الكهان جمع كاهن طبعا، والكاهن ده واحد (وممكن واحدة) بـ يدعي قدرات خاصة، واتصال بـ عالم الغيب، الآلهة أو السماء أو الطبيعة، ويقدر يعرف اللي هـ يحصل، وبـ ييجي له وحي أو جن أو ما أشبه، وكانوا متفاوتين في درجة الخزعبلية، يعني فيه منهم ناس عاقلين وحكماء، وفيه منهم مخابيل، ومنهم نصابين، ومنهم اللي بياكل عيش، واللي فعلا مصدق نفسه.
ما أقدرش أرصد حكايات معينة عن كاهن بـ عينه، لأن فيه ضبابية شديدة تتعلق بـ سيرة كل واحد، يعني مثلا واحد زي قس بن ساعدة الإيادي، ما تقدرش تعرف هو كان كاهن ولا متنبئ ولا مجرد راجل حكيم. وفيه أسطرة حصلت لـ بعضهم، (الأسطرة = صناعة الأسطورة) زي زرقاء اليمامة، وشق وسطيح ("شق" اسم كاهن، و"سطيح" اسم كاهن تاني) والزبراء وغيرهم.
السجع بقى هو إيه؟
العرب كانوا بـ يعتبروا إنه إذا كان الكلام موزون وفيه قافية يبقى اسمه شعر، لكن إذا كان فيه قافية بس، ومفيش وزن معين يبقى سجع، فـ تقدر كده تقول إن السجع هو نثر له قافية. ولو عايز تعرف إيه هو السجع بـ الظبط شوف المشاهد الأخيرة من فيلم "الزواج على الطريقة الحديثة"، وشوف المأذون (حسن مصطفى) كان بـ يتكلم ازاي.
طبعا الكاهن من دول كان عايز يبقى غامض ومؤثر وكده يعني، فـ كان بـ يكتب سجع قوي، له قافية صعبة، ويا حبذا لو مفردات صعبة جدا، أو حتى مش مفهومة خالص، وهكذا.
ناخد حبة نماذج:
"يا أيها الناس اسمعوا وعوا، إن من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، أقسم قسما حتما، لئن كان في الأرض رضًا ليكونن بعده سخطا، بل هو المعبود الواحد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وإليه المآب غدا"
دي لـ قس بن ساعدة
نموذج تاني:
"ورب السماء والأرض ، وما بينهما من رفع وخفض ، أن ما أنبئك به لحق، ما فيه أمض".
دي لـ عوف بن ربيعة
نموذج تالت:
"واللوح الخافق، والليل الغاسق، والصباح الشارق، والنجم الطارق، والمزن الوادق، إن شجر الوادي ليأدو ختلا، ويخرق أنيابا عصلا، .... إلخ إلخ"
دي لـ الزبراء الكاهنة
النماذج من ده كتير كتير، وفيه اللي بـ يقول إن ده الأساس للشكل القرآني، خصوصا القرآن المكي، لأن واضح جدا مش بس في الشكل، ده كمان فيه مفردات وتركيبات زي "سماء ذات أبراج" و"النجم الطارق".
بس طبعا ده كلام حساس وحرج، فـ فيه رد عليه بـ إن الكلام ده ما اتكتبش قبل الإسلام، اتكتب بعده، وبـ التالي الرواة والمؤرخين ألفوه ونسبوه للكهان، إنما سجع الكهان الأصلي ضاع.
الجدل ده لا يمكن حسمه "علميا" و"تاريخيا"، كل واحد حسب عقيدته، فـ إحنا المهم بـ النسبة لنا دلوقتي، إن سوق عكاظ، اللي اتعمل في الطائف، أو في حمايتها، شهد انتشار كبير لـ سجع الكهان، وغيره من الأشكال الأدبية، وكلام قس بن ساعدة المذكور أعلاه قاله في سوق عكاظ.
ده خلى الطائف تبقى زي "عاصمة ثقافية" وخلى عندها إمكانية للمنافسة، ما بانتش في عهد هاشم، بانت بعده، فـ خلينا نقف هنا في الكلام عن الطائف، ونتنقل لـ مكان تاني في الجزيرة.
تابعونا
مقالات اخرى للكاتب