بعد سنوات قليلة من التغيير السياسي في العراق العام 2003 ، أخبرني صديق خليجي بأن الاوساط السياسية والثقافية في بلده تتابع بإهتمام ، تقدم العملية السياسية في العراق . قال لي بالحرف الواحد : نعلّق على نجاحكم آمالا كبيرة . اليوم لاشك لدي في أن صديقي ومن يشاطره الاهتمام والامل بالعراق لا يشعرون بالسرور وهم يرون ما حلّ بالعملية السياسية العراقية . لكنهم بالتأكيد يستخلصون مما يجري عندنا - كما نحن - دروسا وعبراً واستنتاجات عديدة أولها أن الشعوب التي تخرج من ظلمة الدكتاتورية القمعية ، تحتاج الى عملية تأهيل قد تطول سنوات ، قبل أن تطلق الى دائرة ضوء الحرية والديمقراطية . لم نفعل ذلك فبتنا كمن يمنح شهادة عليا دون ان يمر بمرحلة الابتدائية والثانوية . إنفتحت ساحتنا بشكل مفاجئ على مفاهيم ومصطلحات وصيغ حكم لم يكن أغلب الناس سمعوا بها من قبل ، أو أنهم عرفوها من قنوات النظام السابق بمعاني ودلالات تناسب قاموسه . من ذلك : الفدرالية التي فهمها الناس سابقا على أنها إنفصال وتفتيت .
الكاتب الصحافي اللبناني جهاد الزين كتب انه كان من جملة من تسرعوا في الاستبشار بنجاح النخبة السياسية العراقية الجديدة في إدخال مفهوم الفدرالية على الثقافة السياسية العربية ، بعدما فشلت سابقتها اللبنانية في ذلك قبل ربع قرن . فيدرالية توحد العراق وتلم شمله بعدما تشتت بفعل مركزية شديدة . هو اليوم كما غيره يستنتج ان الفيدرالية العراقية التي تلي نظاما مركزيا معرضة للتصدع .
كان الكثير من الكتاب العرب وقفوا مع مبدأ الفيدرالية في العراق رغم أنهم عارضوا الفيدرالية المذهبية القومية التي إقترحها السناتور (آنذاك) جو بايدن العام 2006 وسبقتها مطالبة المجلس الاعلى الاسلامي باقامة فدرالية الجنوب ،فيما كانت الاطراف السنية ومعها كتل شيعية من أشد المعارضين لذلك المشروع باعتباره مقدمة ، أو يعني بالتحديد تقسيم العراق . اليوم ، وبعد مرور ثماني سنوات على مشروع بايدن تبدو أغلب الاطراف السنيّة ساعية بدأب الى تحقيق المشروع مع معرفتها انه سيؤدي حتما الى الى تقسيم العراق .
حتمية التقسيم تاتي من تطبيقات الفيدرالية التي جرت حتى الان في العراق والمنحصرة بإقليم كردستان . نموذج كان مشجعا للاخرين للمطالبة بتطبيق ذات النموذج بعدما وجدوا فيه إستقلالا عمليا مع البقاء مشاركين في الحكومة الفدرالية ، ميزانية ومناصب رئاسية ووزارية . هكذا هو وسات ضع الاقليم منذ 2003 وحتى اليوم . منذ عامين بدأت المطالبة – عبر تظاهرات وتصريحات – بإقليم بدؤوا بإعطائه هوية طائفية صريحة . اليوم تتصاعد هذه المطالب مع رفع السقف أحيانا إلى التقسيم الرسمي.
إقليم كردستان يقابل هذه المطالب بترحيب ودعم كبيرين . ينفعه ذلك في أن لا يبقى حالة تثير التساؤلات والاعتراضات باعتباره متجاوزا حددود الفيدرالية المتعارف عليها عالميا ، فضلا عن تلك التي حددها الدستور العراقي . أي إقليم آخر سيقوم ، لن يقبل باقل ما لدى إقليم كردستان من إمكانيات وممارسات بفعل الامر الواقع ، ولنتخيل حينها شكل الفيدرالية العراقية التي لن تعني سوى إستقلال عملي لكل إقليم وبقاء في تشكيلات الحكومة المركزية ، إبتزازا وعرقلة وتحصيلاً للمزيد من المكاسب ، وقبل ذلك : تجاوزا صارخا للدستور لا يؤثر عليه إستمرار الادعاء بان السلوك والمطالب هي وفق الدستور وان "الحكومة الاتحادية تقوم بالتهميش والاقصاء".. الحكومة التي يشارك بها الجميع ويسبها ويلعنها ويتهمها
أغلبهم.
مقالات اخرى للكاتب