ليس بجديد القول ان من بديهيات السياسة ومن أولى أبجدياتها انه ليس هنالك ثمة أصدقاء دائمون او أعداء دائمون ايضا كما ليس هنالك تحالفات مستمرة او تصادمات دائمة ايضا فالمصالح القومية العليا وأهمية تراتبياتها هي التي تتحكم بمنظومة العلاقات التي تكشف عنها خارطة الاستقطابات الدولية لعالم اليوم وهو مايصدق على الانجاز التاريخي الكبير (المُرضي لكل الأطراف) المتمثل بالاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني المثير للجدل بين إيران ودول 5 + 1(اميركا، المانيا، بريطانيا، الصين، فرنسا، وروسيا) الذي ابرم مؤخرا وهو كما قيل انه اتفاق لحفظ ماء الوجوه وبالأخص الولايات المتحدة التي استعرضت "عضلاتها" التي لم تعد "مفتولة" كما كان إبان الحرب الباردة من جهة وهي لم تعد تمتلك الرغبة في مغامرة شرق اوسطية جديدة بعد حرب العراق والنتائج الوخيمة التي أفرزتها هذه الحرب من جهة ثانية، وكما قيل فان الولايات المتحدة بدأت تعد العدة ابتداء من عهد اوباما الديمقراطي لعلاقات "مخففة" مع شرق أوسط جديد وإقامة منظومة تحالفات جديدة بإعادة توجيه بوصلة اهتماماتها الستراتيجية نحو بؤر اخرى كجنوب شرق اسيا وشمال افريقيا، وثالثا ونتيجة لما تقدم فان اية مغامرة بالتلويح بالقوة الخشنة ضد ايران وبتحريض من
إسرائيل وحلفائها في المنطقة كالسعودية وقطر فإنَّ تلك المغامرة لن تكون محسوبة او محسومة النتائج لاسيما مع دولة من طراز ايران اللاعب الجيبولوتيكي المهم والمتمرس وعلى عدة جبهات مفتوحة تمتد من العراق ولبنان والبحرين والى سوريا واليمن وبما يشكل الهلال الشيعي المفترض، والذي تشكل ايران احدى مرتكزاته المهمة اضافة الى العمق الستراتيجي الايراني المفتوح على مفاجآت قد لا تسر الولايات المتحدة او شركاءها كون الشعارات الراديكالية التي طرحتها الثورة الإسلامية بقيادة آية الله الخميني (تـ 1989) لم ينته مفعولها بعد وهي معدّة باستمرار
للاستهلاك التعبوي الجماهيري وهي على مدى اربعة عقود رسّخت في نفوس الشعب الايراني معاداة امريكا كـ (شيطان) اكبر وراعية (الامبريالية) و(الاستكبار العالمي ) وهي في احسن الاحوال تبقى (عدوة) الشعوب في مخيلة الشارع الايراني المؤدلج ومازال شباب الباستيج الإيراني يرددون شعارات صارخة مثل (الموت لأميركا) ومازال (الصقور) المتشددون ممتعضين من نجاح (الحمائم) المعتدلين الذين حولوا هذا الاتفاق الى نصر لهم ، فليس سهلا إزالة آثار الدوغماتية الشعاراتية من هذه النفوس بين ليلة وضحاها وان بدا الارتياح والتفاؤل طافحا على محيا الشعب الإيراني لاسيما الشباب منهم ،وخاصة بعد مباركة مرشد الثورة آية الله خامنئي لهذا الاتفاق الذي ولد بعملية قيصرية صعبة ولكن ناجحة.
وقد كان واضحا الانقسام السياسي الحاد في المواقف حيال هذا الاتفاق التاريخي ذي الأبعاد المستقبلية على مجمل الشرق الاوسط ومنها العراق، ومن الخطأ الستراتيجي الفادح القول بان هذا الاتفاق هو اتفاق ذو مكاسب آنية ولايران فقط . فالامتعاض الاسرائيلي والخليجي بدا مكشوفا وعاريا خشيةً من امتلاك ايران قنبلة نووية شيعية ما يشكل خطرا على الأمن القومي الإسرائيلي بحكم متاخمةِ لبنان (نصر الله) لإسرائيل بحسب رؤية نتنياهو الذي اعتبر الاتفاق "خطأ" تاريخيا في إشارة لاذعة الى الولايات المتحدة، وبحكم متاخمةِ ايران لدول الخليج العربية ايضا وقابلَ هذا الامتعاض ارتياح عالمي واسع كونه نزع فتيل أزمة كادت ان تندلع حربا غير معروفة النتائج وفي شرق اوسط متفجر وملتهب، لاسيما ان حرب عاصفة الحزم لم تضع أوزارها بصورة عملية بعد، فضلا عن تمدد داعش في اكثر من بلد، وليس خافيا عن الخبراء الستراتيجيين ان مناوئي ايران كالسعودية وإسرائيل اللتين تحفظتا على هذا الاتفاق تخشيان ايما خشية من تقوية النفوذ السياسي لطهران في المنطقة، ومن ان يُطلق يدها كدولة محورية وفاعلة وقوية في الشرق الأوسط وتمارس دور الدولة الكبرى فيه، فهذه الدول تريد احتكار الأدوار المهمة من جهة وتحجيم أي دور لدولة شيعية كبرى من جهة ثانية.
لكن ايران اثبتت انها كانت قادرة على الموقف الندي أمام الدول المناوئة لها وأمام القوى العالمية الكبرى ايضا والانعتاق من توصيف العالمثالثية بالدخول الى النادي النووي وذلك بامتلاك التكنلوجيا النووية دون قدرتها (ورغبتها) في المستقبل المنظور على امتلاك السلاح النووي كما تؤكد القيادة الإيرانية ذلك، وسوف تبقي لإيران قدرة محدودة على إنتاج الوقود النووي لأغراض الطاقة والاستخدامات الطبية فالاتفاق يؤّمن رفع العقوبات المفروضة على ايران مقابل موافقتها على رفع القيود على برنامجها النووي ومن المؤكد ان الارتياح الأميركي ـ الإيراني المتبادل لم يكن يحصل لولا الحوار البنّاء وأجواء الثقة المتبادلة بين اعداء الامس (اصدقاء اليوم) الذين قدموا تنازلات مهمة لتجنب البديل المتوقع من فشل هذه "الصفقة" وهو الحرب التي ستجعل الشرق الأوسط كالهشيم المحتضر فضلا عن إيران، فقد فتح هذا الاتفاق صفحة جديدة للسلام في الشرق الأوسط ومهّد ايضا لحوارات مستقبلية مماثلة فالاتفاق النووي قد يكون بداية لمرحلة قد تغير شكل التحالفات والتكتلات في المنطقة او يكون هناك تغيير لمسارات الصراع الإيراني – الغربي كي تأخذ ما هو أكثر دبلوماسية ونعومة ولو على حساب الحلفاء القدماء.
الاتفاق استوفى جميع الشروط التي وضعتها الولايات المتحدة كقوة عظمى مازالت تحتفظ بمفاتيح اللعبة الشرق أوسطية فلم تخسر نفوذها الشرق أوسطي وابتعد عنها شبح الحرب التي لاتريدها أساسا، ولبى طموحات ايران القومية في الوقت نفسه فأنقذ ماء وجهها ايضا وخرجت منتصرة بتنازلات لم تؤثر في قوة موقفها فهي ستُعوض باسترجاع أموالها المجمدة التي ستحيي اقتصادها المتهالك وتجارتها المقيدة، وسياسيا ستخرج من وصمة الدولة "المارقة" و"محور الشر" الى دولة طبيعية وتتمتع بشراكة حقيقية مع الدول الكبرى بعد ان تنجح في اختبار "حسن" السلوك.
عراقيا: يؤمل من هذا الاتفاق ان يفتح الطريق امام قيام تعاون اميركي - ايراني للبحث عن حلول لأزمات المنطقة ومنها وجود عدو مشترك هو داعش، فالخلاف بين الدولتين لم يكن في صالح العراق ناهيك عن ان التقارب بين طهران وواشنطن ومعها الغرب سيفضي الى وضع خارطة طريق لتفاهم مشترك لحلحلة الازمة السورية وهي الازمة التي لها تماس مباشر مع نتائج الحرب التي يخوضها العراق ضد الارهاب، كما يؤمل ان تدخل ايران كشريك فاعل في الجهود الدولية الرامية لمكافحة الإرهاب بدلا من تحجيمها وتهميشها وتحت مظلة التحالف الستيني بقيادة الولايات المتحدة وهو ما سيعطي مصداقا لهذا الاتفاق بين اعداء الامس وشركاء اليوم وهو مايجب فعله ان أُريد شرق اوسط آمن للكل.
مقالات اخرى للكاتب