مدخل
========
عندما قام شاب في تونس بحرق نفسه لم يقم بالثورة بل اعطى الشرارة اللازمة التي اشعلت تونس والدول العربية , لان المشاكل كانت قد تراكمت لسنوات وتحولت من تحديات الى التهديد والغليان,فكانت شرارة واحدة تكفي للانهيار مصداقاً للمثل العربي ( القشة التي قصمت ظهر البعير).
ومقالنا هذا يبحث في واجبات الاستخبارات وتصحيح النظرة الضيقة للعمل الاستخباري الذي يعتقد البعض انه محصور في التعامل مع العدو الخارجي .
فواجب الاستخبارات يشمل في صلبه منع وصول التحديات الى التهديدات ومن ثم الى مرحلة الانهيار من خلال رصد التحديات وتنبيه سلطة القرار لردود الافعال على طريقة الوقاية خير من العلاج .
===========
اطواق السلطة
===========
لو تصورنا ان الدولة والشعب والارض يشكلون جسماً بشرياً واحداً , فان هذا الجسد(الوطن ). والاعضاء(الشعب) يحتاجان الى مركزللعقل وهي الدولة ,وتكون الحواس الخمسة فيه هي اجهزته الاستخبارية و هي صاحبة الدور الرئيس في ايصال كل المعلومات الى العقل.
في الانظمة المستبدة تكون الاطواق الامنية والمهام الاستخبارية فيها بحيث يكون الحاكم في مركز الدائرة وتحيط به وبنظامه حلقات الدولة وثم الاجهزه الامنية والحزب الحاكم ومن ثم الاستخبارات واخيراً الشعب , اي ان الاستخبارات تحمي الحاكم من الشعب ويكون الشعب هنا هو العدو الداخلي مالم يكن مطيعاً بشكل اعمى.
اما في الانظمة الحديثة فتكون الامور مختلفة , فالدولة هي نقطة المركز والعقل, ويكون الشعب الذي انتخب حكومته هو الطوق الحامي الاول لمكتسباته و للدولة , وتكون الاجهزة الامنية حامية للشعب والدولة , فيما تكون الاستخبارات هي الطوق والدرع الاكبر والاهم والعامل الرئيسي الذي يستشعر الخطر وينبه الجميع ويخبر الجميع بال ( الفرص .. التحديات .. التهديدات .. الانهيارات ).
فالمفهوم الجديد يعتبر ان الاستخبارات هي الحامي الرئيسي لكيان البلد من المشاكل والمخاطر والتهديدات والاعداء ولاتختص بالعدو فقط .
فالاستخبارات هي من ترن جرس الخطر لكل ما يعرِّض المعايير الاجتماعية والمواطنة والقيم والاقتصاد للخطر , فهي تبحث عن الفجوات والتهديدات قبل حدوثها لا بعد وقوعها.
وتبحث الاستخبارات الناجحة عن تحقيق المجتمع المتعادل وتشخص الاضرار الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية والطائفية والقومية والجنائية والامنية , وهي من ينبه الدولة دوماً بالمواضيع والاجراءت المطلوب اتخاذها او تركها او علاجها , وهي تقوي وتزيد الدفاعات الداخلية باستمرار وتخلق دفاعاً وسداً شعبياً ووطنياً لحفظ وصيانة المعايير.
=========
التحديات
=========
كلنا يعلم ان الامن هو من الاولويات الاولى للدولة ( الامن اولا ). وهو اساس صيانة اقليم الدولة والشعب , فلا يمكن العمل بالتنمية والاقتصاد والبناء الوطني والسياسي والقيم بلا امن وامان.
وعادة ماتقسم المشاكل التي تواجه اية دولة (من زاوية درجة خطورتها واستفحالها ) الى ثلاث مستويات هي التحديات والتهديدات والانهيارات , والتحديات هي ماقبل التهديد وثم التهديد واخيراً الانهيار.
ونطلق على مرحلة ماقبل التهديد بمرحلة التحديات , وغالبا ماتكون طويلة وتمتد لسنوات او عقود , حيث تسعى الانظمة السياسية للدول للمحافظة على مستويات النواحي التي تضمن ترسيخ النظام والقانون والسلم المجتمعي وتضع سياسات تصون الاقتصاد وتطوره .
ولكي تنجح بمهامها تلك فانها تكون واعية للتحديات التي تبرز وتجد لها الحلول قبل التفاقم , ومن هنا يكون واجب الاستخبارات المهم في استكشاف واستطلاع التحديات تلك وتبيان مدى خطورتها كي لاتتحول الى تهديدات وازمات قد تتحول في حال تجاهلها الى انهيارات لاتحمد عقباها .
حيث يكمن دور الاستخبارات في تنبيه الدولة الى :
1- رصد ظواهر الظلم بكل اشكاله الذي يعد من اهم مسببات انهيار التماسك والسلم الاهلي .
ويدخل في باب الظلم كل مايعد تعدياً على الحقوق سواء كان بمنعها عن المواطن , او بتمكين المجرم والسارق من الافلات من جريمته تجاه المجتمع .
بل ان تساوي العقوبات في الجرائم بحدودها الدنيا والعليا هو بمثابة ظلم بيِّن له اثاره السلبية على الامن الاهلي , فحين يتساوى في العقوبة من يسرق خمسون الف مع من يبتلع مليار دولار بنفوذه فهو نوع صارخ من انواع الظلم .
2- رصد كل مايعكر النظم الاجتماعية والقيم الاجتماعية والسياسية , فلكل بلد قيم سياسية تضعها السلطة, ونظم اجتماعية ينتجها المجتمع , وقد تكون القيم من سلطة علمانية او ملحدة او دينية ,فالمهم ان السلطة تمنع انهيار هذه القيم والنظم وتمنع الاضرار بها حتى ولو ظاهريا , للحفاظ على سلامة الحكم , وتسعى السلطه لصيانه هذه النظم وتحول دون الاضرار بها كما تحمي النظم الاجتماعيه بشده ولاتسمح بالمساس بها كإحترام الطوائف والاديان والتقاليد وغيرها.
3- رصد اللوبيات التي تنمو في المؤسسات الشرعية الحكومية كالعصابات الحزبية التي تسيطر على المؤسسات الحكوميه وتجعلها ضرعاً لها ومصدر قوة, وهو امر شائع في العراق.
4- التنبيه الى مخاطر ارتفاع معدلات الفقر والبطالة بإعتبارها ارضيات مناسبة للتجنيد والمخدرات والجريمة والخيانة , ولأنها مؤشرات للظلم والتمييز.
5- التصدي لرصد التوجهات الطائفية والقومية والعنصرية المهددة للنسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية .
6- مراقبة نسب الجنح والجنايات باعتبارها مؤشرات على اسباب اقتصادية واجتماعية ولأنها قد تتحول الى تشكيلات عصابية يصعب مواجهتها .
7- التحذير من مخاطر وردود الافعال المحتملة للقرارات الحكومية الخاطئة والمتعجلة , حيث تراقب الاستخبارات رد فعل المواطنين على القرارات الحكومية , فمثلاً قرار منح امتيازات لمسؤولي الدولة في اوضاع اقتصادية صعبة او قرار رفع الدعم عن سلع اساسية , لان مثل تلك القرارات قد تؤدي الى احتقانات وتحدث مشكلة تتطور الى معضلة ثم الى تظاهرات وتهديد ومن ثم عصيان وبعدها تمرد.
8- كما تراقب الاستخبارات توجهات الاعلام بما يحقق التوازن بين الحرية والمسؤولية
9- التصدي للحرب النفسية المضادة والشائعات التي تعد من الاسلحة المؤثرة للعدو , ويتم ذلك من خلال الرصد والشفافية والدقة وكذلك من خلال كشف اساليب تلك الحرب وتنبيه المواطن والدولة الى مواطن الخلل التي اتاحت للشائعات ان تنتشر.
10- التنبيه وكشف الفساد المالي والاداري, لان هذان العاملان اذا ماتركا دون رصد وعلاج فانهما كثيراً ماأديا الى سقوط حكومات وانظمة واضطرابات وانهيارات , لانهما يؤججان الشعور بالظلم المجتمعي ويفاقمان الفقر والبطالة .
11- رصد الفساد السياسي , فمن مهمة الاجهزة الاستخبارية مراقبة فساد السلطة والاحزاب وتمويلها وارتباطاتها , ومراقبة تطبيق الاليات الديموقراطية كالانتخابات والتزوير لارادة المواطنين .
12- تشخيص كافة الفجوات التي قد تؤدي الى ان تنطلق منها الازمات الاقتصادية والامنية والثقافية والاجتماعية لردمها وفق منظور الوقاية خير من العلاج .
===================
معالجات ناعمة . مرنة . خشنة
===================
ان اغلب المشاكل التي ذكرناها هي عوامل يجب ان تكون للاستخبارات رأى فيها وتشخصها وتتعامل معها وتوصل اخبارها واضرارها الى سلطة القرار .
ان عدم تشخيص الاضرار الامنية و الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتركها وعدم وضع الحلول لها سوف يراكم المرض والمشكلة, وتتحول الى معضلة ومن ثم الى تهديد وبعدها انفجار او انهيار.
ان هذه المرحلة من التنبيه والمعالجة تكون دوما قليلة الكلفة في جميع جوانبها وتتم معالجتها بشكل ناعم دون خشونة , ولكن كلما زادت الاضرار وتأخر العلاج , كلما زادت الخسائر والكلف وزادت الحاجة الى القوة المرنة ومن ثم الخشنة .
فالتحديات هي مرحلة ماقبل التهديد وهي من صلب واجب الاستخبارات للسيطره عليها , وعلاجاتها تصبح مكلفة اذا ما تحولت الى التهديد , لان المعالجة الاستخبارية للتحديات هينة اذا ماقورنت بالتهديدات التي تعالج باسلوب مرن امنياً ( شرطويا ) باشراف الاستخبارات , والتي قد تصل في حالة الفشل او الابطاء الى انهيارات لاتحل الا بالتدخل العسكري العنيف (وهو ماسنتطرق له في مقالاتنا المقبلة باذن الله)
ان مانعنيه بالقوة الناعمة هو ان توضع العلاجات المنطقية المقنعة والسلسة والشفافة والايجابية السليمة لعلاج المشاكل لأرضاء النفوس واستيعاب المشاكل , وهو امر لايمكن ان يتم دون ان يكون هنالك جهة ما ترصد وتنبه السلطات السياسية الى المشاكل قبل استفحالها , وتلك الجهة هي الاستخبارات .
ولعل ما حصل عندنا في العراق من تراكم كبير لأخطاء حكومية وشد طائفي وفساد القيم الاجتماعية والسياسية ومؤثرات العوامل الخارجية وغلق عيون الاستخبارات وفساد المؤسسة الاستخبارية والامنية هو ما جعل استخدام القوة الخشنة الطابع الغالب على المعالجات .
=======
خاتمة
=======
ان دور الاستخبارات والمعلومة اساسي ومهم في ديمومة حياة وقوة الانظمة وحراسة القيم الاجتماعية والسياسية وهي التي تؤشر على المشكلة وتحذر منها قبل وقوعها.
اما تخبط الحكومة في جميع المجالات وفقدان البوصلة والتخطيط الصحيح وتغليب المصالح الشخصية والحزبية وانتشار الفساد بكل انواعه بشكل كبير فانه يفاقم التحديات والتهديدات ويجعلنا في مخاطر مرحلة الانهيارات التي احتجنا معها الى المعالجات العسكرية بسبب شلل العمل الاستخباري
مقالات اخرى للكاتب