انتهى زمان الكتابة المسطحة، وابتعد الأدب كثيرا عن مستوى الطول والعرض، فرسالة (التربيع والتدوير) الجاحظية التي هي نموذج تراثي لذلك الأدب المسطح قد اندثرت تحت مستويات العمق الذي لا حدود له، فنحن لا نعرف اليوم عصر المستويات والسطوح والصفحات، بل نعيش في عصر الأعماق والأبعاد المتعددة. لم نعد نشاهد المربع والدائرة، لأن حياتنا أصبحت ملأى بالمكعبات والأكر (الكرات)، فمن كان يستمتع بقراءة رسالة (التربيع والتدوير) والنصوص التي على شاكلتها على أظهر الصفحات المستوية للكتب، لم يعد يروق له إلا التحديق في قوالب التكعيب والتكوير التي تملأ الآفاق وتطبق الارض والسماء، فأينما تولي وجهك فثمة مجسمات بأصناف لا حصر لها، في البيت، في الشارع، في المقهى، في المكتب... لقد ملأت هذه الأشياء ثلاثية الأبعاد كل الفضاءات التي تحيط بنا، فمكعبات التلفاز وكتل الحاسوب ومجسمات الحركة من الطائرة والسيارة والقطار... قد سدت علينا منافذ أدراك البساطة وأغلقت دوننا مسارب الفطرة، فلم نعد ننظر إلى المربعات والدوائر والسطوح ذوات البعدين، فقد ارتقت إدراكاتنا فصرنا نعشق التعقيد والتركيب والانتفاخ، وتورمت حواسنا فصرنا لا نبصر إلا الأشياء الكبيرة والمباني الضخمة والصناعات العملاقة...
ومع فقداننا لذلك الشعور بالبسيط والإحساس بالمستوي أمسينا لا نهتم بالماضي لأنه خزانة التراث، تراثنا المكدس على صفحات تلك الأشياء التي كان يسميها أسلافنا الكتب، كُدُوس منها يعلوها التراب ولا أحد يجرؤ على نفخها خشية تطاير الغبار... لقد علّمتنا الحضارة المعاصرة كيف ننقطع عن جذورنا وأصولنا ونقطع مع تراثنا وماضينا. ولكن إذا كان هنالك ثمة ما يبرر لنظرائنا التبجح بسلوك أبعاد جديدة اسموها الحداثة وما بعد الحداثة، مما يجعلهم يزدرون الماضي الذي لم يكن لهم فيه ذكر ولا أثر، فما بالنا نجاريهم عن تقليد ونتذرع بتلك التبريرات بالمحاكاة والترديد؟ اليست هذه الكتل الضخمة التي تحيط بنا في كل مكان هي نتاج حضارة لم يكن لنا فيها يد؟ لقد رضينا واقتنعنا بأن نكون كالبالونات المعلقة في الهواء أو كالاشخاص السمان المتورمين من المرض...