يحتاج العراق، الذي تعرضت هويته إلى إصابات بليغة ولّدت لدى العراقيين أزمة هوية واضحة، إلى حزب وطني بدءا من التسمية كحزب الأمة العراقية (بزعامة مثال الآلوسي ـ يحتاج إلى تغيير زعامات ديمقراطيا) تماما كاحتياج العراق إلى بروز تيار "مدني ديمقراطي" هو العلامة الفارقة الأكثر تفاؤلا للانتخابات النيابية الأخيرة، أما ائتلاف "الأمة العراقية" مع القوى "المدنية الديمقراطية" فمبشر أكبر في دلالاته الوطنية على أن الوعي الشعبي العراقي بدأ مرحلة جديدة من الإسهام الاجتماعي في صنع النظام الديمقراطي لإدارة شؤون البلاد.
الخراب الذي تعرضت له الروح المدنية للمجتمع العراقي وطيلة أربعة عقود خلت، جعل من السنوات العشرة التي تلت 2003 امتدادا طبيعيا للخراب، وهي عشرٌ يمكن أن تعد فترة نقاهة أو مرحلة استعادة الحياة لقلب توقف عن النبض بحيث انعدم الإحساس الوطني أو كاد بوحدة "المجتمع" الذي حولته بعض الأدبيات الطارئة إلى مجرد "مكونات" في طبخة مستعجلة ينفرط عقدها بذهاب العاقد، ويتشتت شملها بزوال الجامع.
من الأعراض البينة على فوضى الحس الوطني سماع العراقيين (وألفتهم) لتعابير إعلامية لا وطنية من مثل "الجيش العراقي" بدلا من التعبير الوطني "جيشنا"، و"الشرطة العراقية" بدلا من شرطتنا، فمن الطبيعي أن تسمع هذه التعابير في الإعلام اللاوطني غير المنحاز، كالقنوات الفضائية الأوربية والأميركية حين تتحدث عن بلاد أخرى هي "العراق"، ولكن أن تسمع قنوات فضائية محلية وطنية تتحدث عن "الآخر العراقي" دون أن تلتفت إلى ما يعني ذلك من إعلان القطيعة بين الشعب وجيشه، بل وبقية مؤسساته التي تمثله تمثيل اليد والعين للجسد حين يشير الشعب إلى ذاته قائلا: هويتنا، اقتصادنا، فلسفتنا، وطننا، حينها يمكن أن يرد على من يسمي الجيش الوطني بالوثني، أو بقوات المالكي، أليس كذلك؟!
الخراب الوطني الذي باتت وجوهه واضحة الملامح في الإعلام، وفي فنون الأغنية، والأهزوجة، وفي مناهج التعليم، والشوارع، وفي البناء، والسياسة الخارجية للدولة، يظهر واضحا في إحجام ممثلي الشعب عن إقرار قانون ينظم الهوية الوطنية ويعيد اللحمة للنسيج الاجتماعي الممزق هو قانون العمل الحزبي، إذ لا وطنية ترتجى دون أحزاب تقود الوعي، وترتقي بالعمل العام، وتصنع الهوية الوطنية، وإذ لا وطن دون قوانين يشعر الشعب بحمايتها له ولمنجزاته وبتحقيقها لمستقبله.
وعلى هذا يمكن أن يستبشر العراقيون خيرا في ارتفاع عقيرة بعض المحسوبين على الإسلام السياسي بمفردات "المدنية" وإن كانوا لا يدركون تماما أن أول خطوة لنبي الإسلام محمد عليه السلام هي التأسيس لمجتمع مدني، بحيث تحولت "يثرب" إلى مدينة اقترن اسمها بالمدنية حتى بات الذاهب إليها يقول أنا ذاهب إلى "المدينة". كما يمكن أن نستبشر نحن الطامحون دائما إلى عودة العراق إلى "الحظيرة الدولية" بلدا مدنيا، يمكن أن يشار إلى تحضر شعبه قبل الإشارة إلى تحضر مدنه بعد أن بدت (أصبحت بدوية) أهم (حواضره)؛ بغداد، البصرة، والموصل.
لأجل ما تقدم يبدو التيار المدني الذي تحرك في نبض الشارع العراقي خيارا كبيرا لأهم الفائزين في الانتخابات النيابية الحالية من أجل الائتلاف معه والاستعانة بصورته المدنية غير المشوهة، ومن ثم الاستعانة بطاقاته وكفاءاته الأجدر بتمثيل العراق، داخليا وخارجيا، بعد أن "أبدع" السابقون ممن مثل هذا البلد المسكين بتصوير العراق كمادة خبرية للتخلف الحضاري في قائمة المدن المهمة في العالم، ومادة إعلامية للقتل والخراب، والفساد الإداري والمالي وللارتباك والفوضى الوطنية.
نتوقع أن تكون المرحلة المقبلة مرحلة مدنية بامتياز، ولعلنا سنشهد شعارات مدنية أكبر حتى من أولئك الذين أدمنوا التعابير اللاوطنية، أو التعابير الدينية، ومن يدري لعل هناك من سيتبنى شعار "الدينوقراطية" وأن الدين دعوة للتحضر والمدنية.