في مختبر إحد مستشفيات مدينة الطب، بسطت يدي ليسحب المضمد عينة من دمي لفحصها، لاحظته يستعمل الطريقة القديمة التي عفا عليها الزمن. حقنة اعتيادية ينقل الدم منها الى عبوة صغيرة تظل مكشوفة حتى تصل الى المحلل. سألته: لماذا لا تعتمدون الطريقة الحديثة التي باتت مستخدمة في كل مكان بما فيها الدول المتخلفة. رحت أشرح له كيف انها عبوات (أنابيب) صغيرة مفرغة من الهواء، مزودة بإبرة سحب يجري غرزها في الوريد فتقوم تلقائيا بسحب الدم الذي يبقى محفوظا من دون تلوث. لم يستوعب صاحبنا توضيحي ومع ذلك أجابني مكابراً:” متفيدنا هاي الطريقة، جربناها وشفناها مو عملية”. طبعا أستطيع ان اقسم أنه لم يرها حتى . وفي مستشفى ابن سينا الذي جرى تحديثه وتجهيزه باحدث المعدات، أخبرني طبيب ان عشرات الصناديق التي تضم أدوات سحب الدم الحديثة تم حرقها من الجانب العراقي بعد تسلّم المستشفى من الاميركيين لانهم لم يعرفوا وظيفتها وطريقة استعمالها.
في كل مستشفياتنا، يشكل عملية الفحص بالناظور للمعدة أو القولون. تعذيبا حقيقيا للمريض يصاحبها صراخ من شدة الالم (خصوصا في عملية ناظور القولون) . عندما خضعت لعملية الناظور في مستشفى خارج العراق أدركت ان “سادية” تمارسها مستشفياتنا ضد المرضى. وخزة إبرة صغيرة في الوريد هي كل ما احسست به، لاستفيق بعد نصف ساعة من نوم عميق تمت خلاله عملية ناظور المعدة من دون أي عناء ،لاجد أمامي الطبيب ومعه الممرضات بوجوههم الباسمة التي تشكل وحدها نصف العلاج. سألت طبيبا عراقيا : لماذا لا تستعملون التنويم وتريحون المرضى؟ أجابني: “هذه الطريقة غير معتمدة عندنا”، من دون ان يقدم أي تبرير، وكأن ما هو مطبق عندنا مقدس ولا يمكن تغييره مهما تطور العلم وأبدع العقل البشري من وسائل لتخفيف العناء والالم.
هل هي سادية مكتسبة من ظروف ومعاناة العقود الماضية، أم هي سادية “جينية”؟ لماذا يجتهد الاخرون في كيفية تخفيف الالم وتسهيل حياة الانسان فيما نحن نجتهد في كيفية تعذيب الانسان وتعقيد حياته؟
لا يقتصر الامر على الطبابة والمستشفيات طبعاً. هو سلوك يشمل كل مناحي الحياة وتفاصيلها. انظروا فقط الى الروتين الاداري وتعقيداته التي تزداد كل يوم؟ والى الموظف الذي يبحث عن التفسير الاسوأ للتعليمات والقوانين بما يزيد من معاناة المراجعين.
ليس جلداً للذات، إنما هي محاولة لادراك واقعنا، وتحديد مكامن الخلل في وعينا وسلوكنا، كشرط لعملية النهوض من هذا الركام، بعيدا عن التبجح الفارغ بحضارة آلاف السنين.
مقالات اخرى للكاتب