بعد جلسات نقاشية عديدة ، ناعمة الذبذبة ، حادة المعاني ، بيني وبين أحد الإخوة الوزراء الذين أقدّر رجاحة رأيهم وتوازن وهدوء مواقفهم ، وبعد أن نبهني بطريقة خشنة ، أني قد أصبحت من المرشحين الأقوياء لأكون أحد أعداء الحكومة (علناً) ، وعلل طريقة كلامه بخوفه عليّ من أن اُحسب على الجهات المعادية ، بسبب كتاباتي وأفكاري وتصريحاتي ، قررت ترك الوطن للمواطنين الأكثر وطنية مني ، والإكتفاء بالإشارة من بعيد لهذا الأمر أو ذاك ، لاخوفاً من أحد ، لكن إحتراماً لنفسي أمام نفسي على الأقل وحتى لا أقطع شعرة معاوية مع العراق الجديد ( كما يسمّونه ) ، وتركت الوطن ، وقررت أني لن أخوض بالسياسة ، ولن أتعرّض للسياسيين ، ومقالي اليوم هو بداية المرحلة الساخرة الجديدة من مشواري الأدبي الجديد .
والله من وراء القصد.
لقد منحني الريموت كنترول مساحات واسعة لتنظيم القنوات الفضائية , وجعلني قادرا على ممارسة هوايتي الاستبدادية بإصدار أحكام التوقيف والتعطيل والحذف ضد القنوات التي لا ارغب بمشاهدتها, وأصبح لا فرق عندي بين صولجان الحكم وجهاز التحكم بعد أن أضحى الرسيفر مملكتي وشاشته الملونة نافذتي التي اطل منها على القارات السبع , ولن يقدر السياسيون على اقتحام خلوتي المنزلية بعد الآن .
ولن يتسببوا بإزعاجي بمواقفهم المتأرجحة وتصريحاتهم المتناقضة , وأشكالهم غير النظامية ، وبات من حقي الاستمتاع بسلطاتي التعسفية في حشد القنوات المفضلة بقائمة منفصلة واحتجاز القنوات المملة وتصنيفها خارج الترتيب العام ولن يفلت جهاز التحكم من يدي حتى عند انقطاع التيار الكهربائي , فالتنازل عنه يعني التفريط بسلطتي التلفازية في البحث والتقييم والانتقاء والمشاهدة , فالترتيب الذي تندرج فيه المحطات المفضلة أصبح في حقيقة الأمر يعبر عن شخصيتي وهواياتي وعقدي , ويحدد رغبتي في متابعة برامج القنوات الجغرافية والإخبارية والرياضية .
كنت من المدمنين على متابعة أخبار قنوات بعينها , لكنني اكتشفت إنها كانت عبارة عن أبواق مدسوسة وواجهات مغشوشة مهمتها الأولى تضليل الناس وتشتيت أفكارهم بالأخبار الملفقة والأفلام المفبركة , فكان مصيرها الإهمال , ورحت ابحث برغبة جامحة عن القنوات الإخبارية المحايدة والمهنية فلم اعثر عليها حتى الآن , ولم أجد قناة عربية محايدة , فجميعها مجيّرة لحساب الجهات التي موّلتها ووجّهتها .
اما القنوات العراقية (حفظها الله ورعاها) والتي تبث برامجها من هنا أو هناك فقد أصيبت كلها بحمى الأزمات السياسية المحلية , والتي لا تنتهي ، فتفاعلت مع الأحداث وانقسمت في مواقفها الإعلامية بين من يطالب بالرحيل وبين من يطالب بتعزيز الثقة بالولاية الثالثة ، وبين من يُنظّر للسيد فلان وأتباعه وبين من يُنظّر للسيد فلان المالكي وأتباعه ، وكأن بلد التاريخ والحضارة الممتدة آلاف السنين ليس به إلّا المالكي والمالكي (حفظه الله ورعاه) ، فسئمت ضجيجها وصراخها ، ولم اعد أصغي لمهاتراتها وتجاذباتها وتنافراتها .
ثم ظهر علينا نماذج جديدة وغريبة من المحللين والمحللات والناطقين والناطقات ، ممن تخصصوا بإطلاق التصريحات والتلميحات ، ومن مفارقاتهم العجيبة إنهم اختاروا الظهور في القنوات كلها بوقت واحد حتى يخيل إليك إنهم احتكروا الاستقطاب العمودي والأفقي في لواقط النايل سات والعرب سات ، فكان لابد من التصدي لهم بجهاز التحكم ، فحرمتهم من الظهور وأخرجتهم من الترددات كلها ولم اسمح لهم بالتسلل إلى ذاكرة الرسيفر خاصتي . .
وتركتهم يشتمون ، ويمدحون بعيداً عني وعن شاشتي ، وأدرت الصورة على القنوات الدينية لأنهل منها مايُعينني في ديني ودنياي ، وإذا بهم فجأة يطلّون عليّ من جديد في قنوات الدين ، ليُنظّروا لدين جديد لا أعرفه ، دين يخدم مصالحهم ومصالح قائدهم الضرورة ، فقررت ترك الدين لهم ، وتغيير القناة ، لكني لن أترك الريموت كونترول بيد أحد ، وسأبقى أتحكّم به ولو من بعيد .
والله من وراء القصد .
