لم يكن عبود الكرخي شاعرا ينظم الكالمات ويسبكها في قالب شعري , وينقلها الى الناس مشافهة او عبر الصحافة او منابر التداول الثقافي في عصره . لا لم يكن كذالك رغم ان شهرته قامت من خلال شعره . لقد كان مصلحا إجتماعيا . وثائرا على القيم الرثة التي زخر بها المجتمع العراقي , وسياسيا قارع الظلم والتسلط و الهيمنة الأجنبية سواء كانت عثمانية او انجليزية , وصحفيا جعل من قلمه اداة للتعبير عن هموم الناس ومتاعبهم وفقرهم وتطلعاتهم , وفوق كل ذالك كان شاعرا متفردا وفذا أو كما قال عنه الشاعر الزهاوي ( عبود إنْ عُدّت الأفذاذ في بلد/ فأنت في أوّل الأفذاذ معدودُ ) , لم يستطع شعراء عصره ولا من أتوا بعده على مجاراته . فقد اعاد للغة المحكية ( الدارجة ) ألَقها , فاصبحت تنافس اللغة العربية الفصيحة , وذالك من خلال قدرته على شحن قصائده بالصور الفنية والأخيلة وعمق المعاني حتى تحولت الكثير من مقاطع ابياته الى امثلة سائرة تتسم بالحكمة وبالطرافة , وبقدرتها على الوصول الى المتلقي والسامع من بسطاء الناس , حينما يجدونها قد ترجمت ادق احاسيسهم ومشاعرهم وهواجسهم ورغباتهم . لذا شاعت اشعاره بين الناس واصبحوا يترنمون بها كما تحول البعض منها الى اغاني ينشدها المطربون ومنها المجرشة التي غناها المطرب وقاريء المقام الشهير محمد القبنجي .
عبود الكرخي المولود في ستينات القرن التاسع عشر والمتوفى في عام1946 من القرن العشرين عاش حياة عريضة بعطائها . فقد إحترف الزراعة التي قربته من الريف وفلاحيه ثم مارس التجارة التي أهلته لأن يتنقل من بلد الى آخر , ما بين فارس والهند واوربا مما أثرَتْ تجربته الحياتية وعمقت ثقافته السياسية ورفدته بمهارات لغوية قلما تتاح لغيره , فقد كان يتكلم الكردية و الفارسية والألمانية والتركية . كما انه دخل الصحافة وساهم في تطويرها .ومن خلال الصحافة استطاع ان يعبر عن اراءه الجريئة ونظرته لرجال عصره . وقد انشأ صحيفة الكرخ والملا والمزمار وهي صحف شعبية ساخرة ونستطيع القول ان جيل كتاب السخرية من الصحفيين العراقيين الرواد قد تخرجوا من عباءة الكرخي واصبحوا امتدادا لروحه الساخرة الخلاقة .التي كانت مجالا رحبا لأفكاره الجريئة .
ولقد كان قاسيا مع سياسي عصره . لايتورع ان يهجوهم أقذع الهجاء في اسلوب ساخر , وقد قال في نوري السعيد يوما : (سكتي عيني يم قدوري/ ليسمع بصوتج نوري / جوزي من هاي الخرخاشة / لتخدش إذن الباشا) . انها سخرية هادئة تغلغلت في وجدان المواطن الذي كان يحفظها عن ظهر قلب.
لقد كان لعبود الكرخي قصائد خالدة كقصيدة المجرشة , التي تعبر عن رحلة الالام للمرأة العراقية التي لا تمتلك سوى آلة عملها وجهدها الضائع . تلك المجرشة او ( صخرة سيزيف ) التي حملنها المرأة وهي تكابد السيطرة المطلقة للرجل والمجتمع . لقد اضحت تلك المرأة المتعبة رمزا للعبودية التي يقاسيها الأنسان العراقي بنساءه ورجاله . فشاعرنا الكرخي جعل المرأة ليست ضحية فحسب وانما امرأة واعية لحالتها , مدركة لفداحة الظلم , ناقمة عليه : فهي القائلة : ( ذبيت روحي عالجرش / وادري الجرش ياذيها / ساعة واكسر المجرشة وانعل ابو راعيها ) وتستمر المرأة في سفح اوجاعها الى ان تنتهي الى هذا المقطع الذي تحول الى لازمة في فم اغلب العراقيين ( هم هاي دنيا وتنكّضي وحساب اكو تاليها ) وقد تحول مفهوم الجرش شعبيا الى معنى آخر وهو النقد والأحتجاج وليس من الغريب ان يصدر الفنان فيصل لعيبي مجلته الساخرة والتي سماها بالمجرشة تيمنا بعبود الكرخي اولا , وكونها اصبحت وسيلة للجرش الذي يعني النقد .
ولكن قصيدته ( قيم الركاع..) تعد من القصائد التي تجاوزت عصرها , صحيح انه كتبها ذاماً رجال وساسة عصره , ولكن لسوء حظنا نحن العراقيين قد شهدنا مرحلة يصح فيها وصف عبود الكرخي , وكأن الزمن قد تحجر تحت أقدامنا وان مقاطع الكرخي قد كُتبت عن لحظتنا الراهنة فهو القائل :
( قيم الركّاع من ديرة عفج / برلمان أهل المحابس والمدس / عكّب ما جانوا يدورون الفلس / هسة هم يرتشي او هم يختلس / ولو نقص من راتبه سنت إنعقج ) ويستمر في القصيدة على هذا المنوال الى ان يقول : ( اتشوف واحدهم معكّل بالوقار / بالأصل تاريخه اسود كله عار / ابظرف ثلث اسنين مليونير صار /ايريد علوادم ايعبر له جلج ) هل هناك تطابق اكثر من هذا ؟ اية نبوءة مرة ايها الكرخي الرائع .
وقصيدته ( يصير ) تمثل سخرية بالواقع حينما بعدد الكثير من المستحيلات والمتناقضات , فيقول في بعض ابياتها
(يصير تصعد للسمه بسلم درج / يصير من مصلوب تطلبلك فرج . يصيراموات احتيو من مكّبرة / يصير نملة وتدفع الملوية .يصير شايب منحني ويرجع ولد / يصيربالمرمر يدكون الوتد ..يصير من لندن تجي امجارية ..) ولقد اخترت هذه الأبيات بدون تسلسل للقصيدة ولكن الذي استوقفني هو هذا البيت :
(يصير ب (دبي) مدرسة حربية / يصيرتوضع جبل بالقوطية ) . لقد استكثر شاعرنا على دبي ان يكون فيها مدرسة معتبرا ذالك مستحيلا . ولم يعلم شاعرنا أنّ دبي ستنافس امهات مدن العالم وتتفوق عليهن . اما بغداد التي يفخر بها الكرخي فقد تقهقرت الى الوراء واصبحت من اسوأ مدن العالم . اتذكر في بداية السبعينات حينما استولت ايران على جزر اماراتية وسط الخليج . كان الأماراتيون اكثر واقعية فقد صمتوا واستمروا في عملية بناء بلدهم .لأنهم لايستطيعون ان يستعيدوا جزرهم بالقوة . اما نحن في العراق فقد كانت الجزر وكأنها قضيتنا , فقد حشّد النظام عشرات المظاهرات في كل المدن العراقية تندد بالغزو الأيراني لجزر اماراتية ! كان المتظاهر افي المدن العراقية يتلظى في وهج حرارة تصل الى الخمسين مئوية , لايحميه من الشمس اللافحة سوى كوفيته . اما الأماراتي فكان يرفل في دشداشة حريرية ويقود احدث السيارات المكيفة . لقد بنى الأماراتيون بلدا مجزئا وجعلوا منه اكبر قوة اقتصادية واجمل بقعة سياحية , لقد صنعوا من حبات الرمل ذهبا فهنيئا لهم , كما جعل من المواطن الأماراتي اميرا في بلده , تسعى اليه خبرات العالم , لذالك فقد كان البناء معجزة بكل المقاييس . اما نحن – ابناء الكرخي – فقد بقينا نلثغ بشعارات ساذجة , وندعوا الى وحدة المصير . ننزف الدم عوضا عن الآخرين , ندافع عن الخليجيين ونحرس بواباتهم في حروب طاحنة . وحينما اردنا أن نلتقط انفاسنا وجدنا بلدنا الجميل مثخنا بالجراح , متخلفا عن الركب , مترعا بالفساد . فلو عاد الكرخي من جديد لأصابه الذهول وكتب مئات الأبيات التي تتحدث عن مستحيلات جديدة . ولكنه بالتأكيد سيراجع الكثير من مستحيلاته السابقة .
مقالات اخرى للكاتب