إذا كان الكِتاب هو الفأس الذي يتهشم فيه البحر المتجمد فينا، حسب الروائي الجيكي (فرانز كافكا)، فإن القلم هو مفتاح العقل وشفرة التحكم في مساراته وتعميق يقظته وبناء جدرانه وتحصينه بشكل واعٍ من اخطبوط المتاهة وتوفير حافات التكامل مع النفس والطبيعة بسلام وهدوء، سواء أكان العقل بسيطاً عادياً أم نقدياً معقداً. ولكن كم منا يدرك حقا كيف يُصنع قلم الرصاص لكي يستحق ذلك العنوان الرمزي الإشاري، أي: القلم مفتاح العقل وشفرته؟
إن من أروع الِحكم والاستعارات هي ان تكون البداية مع الكاتب الأميركي الراحل (ليونارد ريد) الذي أسس وأدار بنفسه مؤسسة التعليم الاقتصادي في الولايات المتحدة، عندما أثار في كتيب له، موضوع صناعة قلم الرصاص وكيفية تتكامل عمليات صنعه المعقدة. فقد قص علينا ريد في كتيبه الذائع الصيت الذي اصدره في العام 1958، وجاء بعنوان عريض اسماه: أنا قلم الرصاص..!، موضحاً ان هناك الكثير من العمل الذي يجري أداؤه حتى نحصل على شيء صغير اسمه قلم الرصاص! ولاسيما ان الولايات المتحدة تنتج اليوم لوحدها ما يزيد على مليار ونصف المليار من اقلام الرصاص (التي تكتسي اللون الاصفر) سنوياً. في حين تنتج المانيا سنوياً من اقلام الرصاص (التي تكتسي اقلامها اللون الاخضر) وتنتج كذلك بريطانيا التي تزدان اقلام رصاصها (باللونين الاصفر والاسود) ناهيك عن الهند التي تزدان اقلامها (باللونين الاحمر والاسود) فيماثل انتاجهم السنوي جميعاً متوسط انتاج الولايات المتحدة من اقلام الرصاص. كما يؤكد ليونارد ريد في كتيبه.
واحدة من الحقائق الاقتصادية المتعلقة بالتخصص وتقسيم العمل والتي اوردها مؤسس علم الاقتصاد الكلاسيكي آدم سمث 1776 في كتابه الشهير (ثروة الامم)، موضحاً انه ليس بمقدور فرد واحد ان يصنع بمفرده شيئا كقلم الرصاص، ذلك ابتداءً من زرع بذرة الارز في الارض وتنمية اشجارها وتقطيعها ومن ثم انتاج المطاط في ماليزيا وتحضير الكاربون الاسود الطري وتكثيفه وصنع الطلاء حتى يكتمل صنع قلم الرصاص. فالقلم يصنع عبر ميكانيكيات تفرضها قوى طبيعية هي (اليد الخفية) أي السوق وبأذرعها (العرض والطلب) التي تسيطر على حركة الافراد والاشياء وتدفع الناس نحو المتاجرة والتبادل بالسلع والخدمات. فعندما تشتري ذلك القلم البسيط فانك لا تعلم كيف جرى تصنيعه وكيف تعارف آلاف الناس فيما بينهم لصناعته. انها قصة صناعية معقدة على الرغم من بساطة القلم. فالاسواق الحرة هي التي صنعت القلم وان تلك الاسواق هي التي نظمت آلاف الناس ونظمت آلاف العمليات التصنيعية المعقدة لصناعة القلم. ولكن هنالك مخُطط مركزي بأيدي خفية يوجه عوامل الانتاج في كل مكان في الارض وهو يتخذ قراراً مركزيا خفياً لصنع القلم وهو السوق كما اشرنا آنفاً.
في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، أثار المفكر الاقتصادي العالم الراحل (ميلتن فريدمان) إشاعة الفكر الليبرالي الجديد ذلك بعرض سلسلة تثقيقية اقتصادية في التلفزيون الأميركي: جاءت تحت عنوان: (حراً لتختار free to choose). وقد تناول فريدمان الراحل ليونارد ريد ليكون موضوعاً في تبسيط آليات النظام الاقتصادي الحر. مظهراً قوة السوق، في قطعة كلاسيكية اكتشفها فريدمان بقوة عند (ليونارد ريد) في كتيبه الشهير: انا قلم الرصاص. ولا توجد قطعة ادبية، كما قال فريدمان، تفي بحقها مثلما عرضه ليونارد ريد في تصويره لآدم سمث حول اليد الخفية في صنع القلم، أي التعاون بين الناس لانتاج القلم دون قهرٍ او قسر.
وهنا يضيف فريدمان مؤكداً مقولات لـ(فريدريك هايك) وهو من طلائع الليبراليين الجدد عما أسماه الاخير (بالمعرفة المشتتة) عند كل فرد ودور نظام الاسعار في تكاملها عن طريق ترسيخ نظام المعلومات وتواصله بصورة مدمجة عبر دورة الانتاج والتي تحث الفرد في النهاية على اداء أي عمل يرغب به من دون ان يجبره أحد على فعل ذلك.
ختاماً، لايهم الناس كثيرا سواء اكنت بنفسي من الذين يتفقون مع المدرسة الليبرالية الاقتصادية الجديدة في تفسير علاقات انتاج او صنع قلم الرصاص وقواه المنتجة، او ممن يقفون بالضد منها ولكن ما يهمني هو القلم نفسه. فما قاله احد حكماء مدرسة الانسانية هو بحق يمثل الفكر الذي أنتمي اليه عندما اشار: (ما فائدة القلم.. إذا لم يفتح فكراً او يضمد جرحا او يمسح دمعة او يطهر قلبا او يكشف زيفاً او يبني بيتاً ويسعد انساناً في اصعب ظروفه). فبالقلم تنتصر الحكمة والبصيرة والعدالة وينتصر العقل!
مقالات اخرى للكاتب